في زمن الفتنة بقلم علياء علولو- تونس
كانت أمال وحيدة والديها و قرة عين لهما، لم تكن الحياة مبتسمة لهذه العائلة الفقيرة و لكنها لم تكشّر و لم تشتكِ و لم تنحنِ يوما… كان والدها حارسا ليليا في أحد المصانع ، أما أمها فمعينة منزلية…
أفاقت ذات صباح فلم تجد أما و لا أبا! حملتهما الملائكة على أجنحة السلام إلى دار الخلد، حين كانا في زيارة مجاملة إلى أحد أبناء العمومة… كل شيء يسير عاديا إلى أن تلبدت السماء و اكفهر وجهها بما كساه من طائرات تلقي بما في بطونها فتلهب الأرض و ما عليها… ساد الرعب و عم الهلع و انتشر الجميع في سباق عشوائي للبقاء، لكن القنابل كانت أسرع و الموت أقرب من شريان الحياة…
اسودت الأيام، تكسرت المجاديف، توقفت العقارب، تاهت البنية و اليد خاوية و العين دامعة… خرجت من البيت لا وجهة لها، سارت حتى أنهكها السير و أعياها الجوع و استنزفها العطش… أمام أحد المطاعم وقفت تلوك في صمت جفاف حلقها مع كل قطعة يضعها رواد المطعم في أفواههم، أثخنتها رائحة الشواء و ألهبت سياطُ الحرمان عينيها، و ما شعرت إلا و يد تربّت على كتفهاج
- تعالي، صغيرتي، لنتغدى سويا.
رفعت عينين أذبلهما الأسى و زينتهما الدموع نحو هذه السيدة العطوف التي أحست بألمها و استشعرت جوعها و يتمها و انقادت معها نحو الطاولة لا تلوي إلا على إشباع معدتها… طلبت السيدة ما لذ و تشتهيه العين قبل البطن… و في الأثناء سألت عن قصتها، فروت دموعها يتمها و عوزها و الوحدة في زمن لا يرحم، حكت انتظارها لأبويها، و قلقها و خوفها الشديدين، و قدوم الناعي يعلن ولوجها عالم اليتم و الوحدة و الضياع… انهمرت دموعها، نظرت إلى الطعام، تذكرت جوعها، مدت يدها نحو تلك الأطايب فاستوقفها شعور بالخجل و الهوان، تراجعت، توقفت اليد الصغيرة، نظرت إلى مرافقتها نظرة حوت كل الوجع و همت بالوقوف… لكن المرأة قرأت ما في عقلها الصغير فأمسكت بيدها و استوقفتها و قالت: - أصغيرتي، هل تتركينني وحيدة و أنا من فرحت بأنيس مثلك؟ أنا أحتاج صحبتك، انظري إليّ، قد شارفت على الستين و لا أنيس لي و لا رفيق، توفي زوجي في غارة و هاجر ابني في من هربوا من سياط هذا الوطن الذي ما عاد حاميا لأبنائه ، و أنا أجتر في كل يوم ذكريات زمن لن يعود، أنت ضالتي ،و أنا ضالتك، ستكونين ابنتي و أكون لك أما.
اتسعت الحدقتان و بانت الضواحك و تقاسمت الصغيرة غداء الفرحة مع الأم المرتقبة في مدينة أثخنتها جراح الفتنة من سنين…
بلغت المرأة و “ابنتها” المنزل، احتفت بها، قدمت لها ملابس جديدة و حماما دافئا، خصتها بغرفة مرتبة، أحست البنت لكأنها في عالم سحري مفارق لواقعها المر، و استسلمت لنوم ما غرقت في مثله من قبل… كم كانت سعادتها غامرة، في صباح الغد، حين أخبرتها “أمها” بالذهاب لاشتراء ملابس جديدة تليق بابنتها الوحيدة، غازلت المرآة و استدارت أمامها دورتين، بعينين حالمتين وثغر عرفت الابتسامة الطريق إليه… ثم سارت في الشارع جنبا إلى جنب مزهوة بأم حنون ما أنجبتها، سارتا طويلا قبل أن تستقلا الحافلة التي استغرقت نصف ساعة مرت على البنت دهرا، كانت تتخيل ملابسها الجديدة، سارت من جديد مع الأم الحنون ، لم تر محلات و لا ملابس، دخلتا زقاقا عفنا تنبعث منه رائحة الرطوبة و تتجمع فيه القطط،
-أين الملابس؟ يا أماه!
قالت بنبرة حنون:
-سنبلغ المحل قريبا، إنه في بيت لإحدى صديقاتي،
دقت الباب ثلاث دقات، جاء الصوت “من؟ ” أجابت “حياة” فتح الباب، استقبلتهما سيدة أربعينية مهتمة بزينتها حد التبرج ، جلستا، اقتربت المرأة من البنت ، تفحصتها بعينين نافذتين حادتين، ارتعدت، أحست بقشعريرة و بخوف يسري في أوصالها، نظرت إلى من تناديها أمها، ابتسمت لها و ما أفلحت ابتسامتها في طمأنتها، انسحبت المرأتان و تبادلتا كلاما لم تتمكن من سماعه، و لكنها استطاعت أن ترى “أمها” تأخذ مالا من المرأة الأخرى، و تدسه في حقيبتها ثم تتوجه نحو باب الخروج، صاحت أمال بكل أملها المختنق:
-أمي! هل تتركينني؟!
و قبل أن تتحرك خطوة كانت الأخرى تحكم قبضتها عليها صائحة في وجهها: - اصمتي، لا تتعبيني، لا أم لك! لقد قبضت ثمنك و رحلت! لا أحد لك غيري! عليلشك أن تطيعيني،
صاحت حتى ضاع صوتها، بكت، توسلت، نادت، لا أذن تسمع للأشقياء و لا عين ترى دموع اليتامى في زمن الفتنة، في وطن أصبحت بناته تباع في سوق النخاسة…
علياء علولو- تونس 30/06/2020 ، 03:17
التعليقات مغلقة.