في سيكولوجية الذاكرة وأنماط الشخصية بقلم د. قاسم المحبشي
ثمة مواقف وأحداث وذكريات تمر بنا ونمر بها في حياتنا تظل عالقة بالذاكرة وتستعصي على النسيان، هذا هو حال الإنسان منذ أن تتفتح مداركه الواعية على الدنيا في مرحلة الطفولة المبكرة، إذ يتذوق بعض الأفراد لحظة فطامهم من حليب أمهاتهم إذ ارضعهم ثلاث سنوات كما بينت الدراسات في علم نفس النمو. ويقال أنه كلما طالت مدة رضاعة الطفل / الطفلة زادت حدة الذكاء العقلي والعاطفي. فمن منكم يتذكر لحظة الفطام؟ أما أنا فلا اتذكرها ولكنني أتذكر مواقف سارة وحزينة مررت بها في حياتي منذ طفولتي ومن بين ما علق بالذاكرة لحظة وداع استاذ فلسفة الجمال الألماني هاوفمان. كنا في سنة رابعة بكالوريوس حينما ودعنا وودعناه. كرس نصف المحاضرة الأخيرة للوداع فماذا قال؟ ” أنني وأنا أودعكم بعد أن أمضيت معكم أربع سنوات من التدريس والنشاط الأكاديمي تنتابني مشاعر متناقضة: إذ عين تبكي وعين تفرح؛ عين تبكي لفراقكم وفراق عدن الجميلة وعين تفرح بتخرجكم وعودتي إلى أحضان عائلتي ووطني في برلين واستئناف نشاطي الأكاديمي في جامعتها وأضاف قبل وداعكم دعوني أختم تلك الخبرة والتجربة بلعبة أخبار الشخصية إذ سوف اصطحبكم في رحلة خيالية عبر العالم وكل منكم يحدد موقفه من كل ما نصادفه في طريق رحلتنا فتح دفتر التحضير وبدأ بالحكاية. ها نحن الآن نسير في صحراء مقفرة ولدى كل واحد منّا الماء والغذاء ما يكفي لسد رمقه وفجأة وجدنا شخصا يكاد يموت من العطش فكيف يكون التصرف؟ طبعا الموقف فردي والقرار شخصي وكل شخص يجيب عما سوف يفعله في موقف كهذا؟ وللجواب معنى. ثم وصلنا سيرنا ولمحنا من بعيد قلعة عالية الأسوار ولا أحد يعلم ماذا بداخلها؟ فماذا يتخيلها كل فرد منّا؟ البعض قال: مدينة والبعض قال: سجن والبعض قال: معسكر والبعض قال: مقبرة والبعض قال:حديقة حيونات، والبعض قال: صومعة عبادة والبعض قال: مكان مهجور ..الخ. الدكتور كان يسجل إجابات كل واحد منّا وطلب من كل طالب تسجيل خياراته. استمرت الرحلة فشاهدنا من بعيد وفي عز هجير الشمس شيئا يلمع. فماذا سيكون؟ البعض قال: سراب، والبعض ماء والبعض قال معدن والبعض قال ذهب والبعض قال فضة والبعض قال زنك..الخ. ثم استمرت الرحلة في الصحراء وقد أضنى الجميع العطش وفجأة نعثر على بركة ماء باردة وعذبة فماذا يكون التصرف؟ البعض قال: سالقي بذاتي بالبركة والبعض قال سوف أشرب مباشرة بفمي والبعض قال: سوف أشرب بيدي والبعض قال سوف أملى زمزميتي بالماء واشربه ..الخ. استمرت الرحلة وفيها قطاع طرق وحيوانات متوحشة وكلاب وطرق جبلية وعرة وسيول جارفة ومواقف حدية أخرى تتطلب اتخاذ قرارات سريعة وكنا نجيب بتلقائية وفي أخر المطاف قال لنا الأستاذ ما هي أنماط الشخصية التي نحملها وفي ألمانيا ازدهرت النظرية الجشطلطية في علم النفس وأنماط الشخصية متعددة منها:
الشخصية الانبساطية
الشخصية الانطوائية
الشخصية القهرية
الشخصية السيكوباتية …
الشخصية الإضطهادية ( البارانويد ) …
الشخصية الهيستيرية.
وغير ذلك من الأنماط
تلك الحكاية ظلت عالقة بذهني وقد وظفتها في مواقف كثيرة مع طلابي. وهكذا هم بعض المعلمين والاستاذة نظل نتذكرهم إلى أخر الوقت بينما بعضهم سرعان ما ننسى اسماءهم.
فما تتذكر من تاريخك وشخصية الإنسان هي تاريخه إذ نعيش التاريخ كما تعيش الأسماك بالماء. ولا مهرب للإنسان من التاريخ وذكرياته.
شكرا باب مصر الديسك المركزي ومديرته الدكتورة الرائعة ريهان القمري للنشر والتوثيق خالص تقديري واحترامي