فى طريق النور مع غزوة بدر ( الجزء الثالث )
بقلم / محمــــد الدكـــرورى
قال الله عز وجل للمسلمين ، لما أخذت بعضهم نشوة النصر، فافتخر بقتله لصناديد أهل الكفر ، قال تعالى لهم مُعلما ومُؤدبا ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) فأنتم أمسكتم بالسيوف وضربتم، ولكن الله هو الذي أمدكم بالقوة، وأوصلها إلى رقاب الأعداء فقتلتهم ، فالنصر بداية من الله عز وجل ، ونكمل الجزء الثالث من حيث توقفنا عنده فى الجزء الثانى .
ولكن فرعون الأمة الذي كان يسعى لحتفه بظلفه أفسد هذه المعارضة، وأثار حفائظ عامر بن الحضرمي، فقال: “هذا حليفك، أي عتبة، يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك”، فقام عامر وكشف عن استه، وصرخ قائلاً:”واعمراه واعمراه”، فحمي الناس وصعب أمرهم واستوثقوا على ما هم عليه من الشر”.
وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي التي وردت بعض الآثار أنه أول من يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة وكان رجلاً شرسًا سيئ الخلق أراد أن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم فقتله حمزة بن عبد المطلب قبل أن يشرب منه، ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وولده الوليد وأخوه شيبة وطلبوا المبارزة .
فخرج ثلاثة من الأنصار فرفضوهم، وطلبوا مبارزة ثلاثة من المهاجرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وكانوا أقرب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم واستطاع المسلمون قتل الكافرين.
واستشاط الكافرون غضبًا لمقتل فرسانهم وقادتهم فهجموا على المسلمين هجمة رجل واحد ودارت رحى حرب طاحنة في أول صدام بين الحق والباطل وبين جند الرحمن بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجند الشيطان بقيادة فرعون الأمة أبو جهل، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يناشد ربه ويتضرع ويدعو ويبتهل، وقال: “اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم”،وبالغ الاجتهاد والتضرع حتى سقط رداؤه عن منكبيه.
أغفى رسول الله إغفاءة واحدة ثم رفع رأسه، فقال: “أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع”، فلقد جاء المدد الإلهي ألف من الملائكة يقودهم جبريل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: “سيهزم الجمع ويولون الدبر”، ثم أخذ حفنة من الحصى فاستقبل بها قريشً، وقال: “شاهت الوجوه “، ورمى بها في وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه.
ودنت ساعة الصفر ، وبدأ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف بقدح كان في يده ، فإذا بسواد بن غَزِيّة مائل عن الصف ، فطعن في بطنه بالقدح وقال: استوِ يا سواد ، فقال: يا رسول الله أوجعتني فقدني (يعني يريد القصاص)، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد ، فاعتنقه سواد وأخذ يقبل بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ قال: يا رسول الله ، قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخرُ العهد بك أن يمس جلدي جلدَك ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم .
وقام الرسول صلى الله عليه وسلم يحرض المسلمين على القتال، فقال لهم: “والذي نفسي بيده لا يقاتلنهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض”، فقال عمير بن الحمام: “لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة”، فرمى بما كان معهمن التمر ثم قاتلهم حتى قُتل رحمه الله.
وسأل عوف بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟”، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “غمسه يده في العدو حاسرًا”، فنزع عوف درعًا كانت عليه، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
وقاتل عُكّاشَةُ بن مِحْصَن يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ” قاتل بهذه يا عُكاشة “، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين ، ولم يزل يقاتل بهذا السيف حتى قُتل في حروب الردة وهو عنده .
وجاء غلامان صغيران هما معاذ بن عمرو ومعوذ بن عفراء، وظلا طوال القتال يبحثان عن أبي جهل لأنهما أقسما أن يقتلاه ، لأنه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إني لواقف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه، أتعرف أبا جهل؟
فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه .
وبالفعل وصلا إليه حتى قتلاه، وقام ابن مسعود بحز رأسه وحملها للنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال عندما رآها: “الله أكبر والحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، هذا فرعون هذه الأمة”.
وضرب لصحابة أروع الأمثلة في الاستعلاء بإيمانهم وعقيدتهم، وبينوا لنا كيف تكون عقيدة الولاء والبراء، فلقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وقتل عمر بن الخطاب خاله وهمَّ أبو بكر أن يقتل ولده عبد الرحمن، وأخذ أبو عزيز أسيرًا في المعركة، فأمر أخوه مصعب بن عمير بشد وثاقه وطلب فدية عظيمة فيه.
واستمرت المعركة الهائلة والملائكة تقتل وتأسر من المشركين، والمسلمون يضربون أروع الأمثلة في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينهم ورسولهم حتى انتهت المعركة بفوز ساحق للمسلمين بسبعين قتيلاً وسبعين أسيرًا، ومصرع قادة الكفر من قريش، وأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بطرح جيف المشركين في قليب خبيث في بدر.
ثم أخذ يكلمهم: “بئس العشيرة كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس”، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر ، ونزل خبر هزيمة المشركين في غزوة بدر كالصاعقة على أهل مكة، حتى إنهم منعوا النياحة على القتلى ، لئلا يشمت بهم المسلمون .
فحين جاءت البشرى لأهل المدينة فعمتها البهجة والسرور، واهتزت أرجاؤها تهليلاً وتكبيرًا، وكان فتحًا مبينًا ويومًا فرق الله به بين الحق والباطل ، وكانت هذه الموقعة العظيمة في السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة.
واستشهد من المسلمين فى بدر أربعة عشر رجلا رضي الله عنهم ، منهم حارثة بن سُراقة ، وكان قد رُمي بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحره فمات، وعن أنس أن أم حارثة قالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ” .رواه الخارى ومسلم .
وها نحن وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فعلمنا أن من أسباب النصر العظيمة تآلف القلوب وتراحمها، فكان أصحاب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، في قلة من العدد والعدة، ولكن كانت بينهم المحبة والصفاء والمودة، كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين متكاتفين متناصرين متآزرين، شعارهم: لا إله إلا الله، فسبحان من أعزهم وهم أذلاء، سبحان من أغناهم وهم فقراء، سبحان من رفعهم وهم وضعاء.
وكان التآلف والتعاطف والتكاتف والتناصر والتآزر سبيل إلى نصر المؤمنين، طريق لعزة الأخيار والصالحين، فإن وجدت أهل الإسلام متعاطفين متراحمين فاعلم أن النصر حليفهم ، وفي هذه الغزوة تجلت صور الحب الحقيقي لله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، والاستجابة لله وللرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبرزت صفحات من البطولة والتضحية .
فكان الصحابة يتسابقون إلى ساحات الجهاد، ويتنافسون على القتال في سبيل الله ونيل الشهادة ، بل كان لصغار الصحابة نصيب من هذه البطولات ، فهذا عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبى وقاص ، حضر غزوة بدر وعمره ستة عشر عاماً ، وكان قبل المعركة يتخفى عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فيردَّه بسبب صغره .
وسرعان ما اكتشف هذا البطل الصغير ، فيؤتى به إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه صغيراً رده عن المشاركة في المعركة ، فتولى وهو يبكى ، فلما رأى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بكاءه وإصراره أجازه ، فدخل المعركة ، فقاتل حتى قتل ، رضي الله عنهم أجمعين .
التعليقات مغلقة.