قابلتُ روزالين بقلم خالد العجماوي
قابلتُ روزالين..
جميلة..
بشرتها صافية، بشعر ناعم مجدول على رأسها، و قد أبت أن يتحرر فينسدل من وراء نحرها المرمري إلى خاصرتيها النحيلتين.
كانت في حديقة، تجلس على كرسي من خشب البلوط، و هي تتنسم عبق وردة من زهر البنفسج، ناظرة إلى حمامة صغيرة تنقر بعض حباتٍ نثرتها الريح الخفيف على الأرض المخضرّة.
تحمل الوردة بكلتا راحتيها، فو كأنها قد نبتت من بياض كفيها الجميلين، أو كأنها تستدفئ بلونها الهادئ من عواصف روحها المضطربة.
جذبني إليها حسنها الباهر، فاقتربت شيئا وأنا أتصنع الأدب الجمّ. استأذنت في الجلوس بجوارها فأذنت في لطف. شكرتها و قد راقني نظرتها الحالمة. صمتُّ و أنا أنظر إلى تلك الحمامة بدوري، فشعرتُ و كأنها تطيل النقر على أرض الحديقة كي تنال إعجابنا أنا و روزالين، أو ربما لتهبني فرصة كي أستجمع شتات فكري، قبل أن أتشجع شيئا فأخاطب ذلك الملاك الذي يجلس بجانبي.
كيف استطاع روميو أن ينسى تلك الجميلة!
أو بالأحرى؛ كيف استطاعت جولييت أن تُنسي روميو جمال روزالين و سحرها؟! أكانت بالفعل أجمل منها؟
فو كأنها قد عرفت نوازع نفسي، إذ قالت و على فمها ابتسامة، و عينها عالقة بالحمامة الناقرة:
- كنت أجمل، و لكنها بادلته حبا بحب، أما أنا فصددته.
تتكلم بثقة و كبرياء، يخالطهما مرارةٌ لا تغفل.
هي ثقة المرأة الأولى وكبرياؤها. كانت روزالين حبيبة روميو قبل جولييت، و لكن الحكاية لدى شكسبير لم تقف عندها طويلا، فجعلتها مجرد استهلال لحب آخر عظيم. حب عاش في نفوس الناس قاطبة كشمس تهدي المحبين دفئا يعزيهم في ليالي الحرمان، و حرارة تعينهم لوعة الشوق و الهجران. كانت روزالين مجرد البداية، التي سرعان ما نسيتها الجموع، و هجرتها حتى الذكرى. هل قصد شكسبير أن يجعل منها بداية فقط، أم أراد أيضا معاقبتها، لأنها لم تبادل روميو حبا بحب، فألقى بها في وادي النسيان المظلم.
و هل هو ذنبها أنها لم تحب روميو؟ أم لأن قلبها كالصخر لا يعرف أن يلين؟ هل تلك الجميلة الرقيقة تملك قلبا صخريا حقا؟!
و كأنها أدركت ما يجول في خاطري مجددا. نظرت إلي هذه المرة، و قالت: - قلبي ليس صخريا، كما أني لست ميتة القلب.
رأيتني أسألها: - لماذا لم تحبي روميو إذن؟
كادت أن تجيب سريعا، بيد أنها ابتلعت ريقها، و نظرت إلى الوردة بين راحتيها، و قالت بعينين سارحتين: - لم يكن مناسباً.
- أتكلم عن الحب.
- أراد روميو عاطفة المراهقين، و كنت مراهقة بعقل ناضج، و عقل كبار.
- تكفرين بالحب إذن؟
هنا سكتت هنيهة، و نظرت في عيني بعمق و ثقة. و قالت: - إذا كنت تتكلم عن حب الإنسان لأخيه الإنسان فأنا أول المؤمنين المتبتلين. أومن بالحب الذي يجر سلاما، الذي يكرز إلى الهدوء و الدعة.
سكتت لحظة، ثم أردفت: - و أما ذلك الحب الذي يجر على صاحبه الويلات فنعم أنا أكفر به.
بدا علي الاستغراب، فقالت هي و قد رفعت حاجبيها الدقيقين على جبينها الأبيض: - أراد روميو أن يرتشف من كأس الحب دون أن يدرك التبعات. كان قلبه ظامئا و عقله غيبته الرغبات باسم الحب ذاك.
- و هل يعرف الحب الحسابات؟ الحب قدر يا آنسة..
- بل الحب اختيار. و أنا اخترت السلام.
- أراه جبنا ليس إلا !
- تسميه جبنا و أنا أسميه عقلا و حكمة.
بدا علي الانزعاج. بدت لي عاقلة أكثر من اللازم. الحب يا روزالين لا يعرف الحسابات تلك. ليس للعاشق أن يتبصر موطئ قدمه قبل أن يخطو في سماء العشق ، و إلا لما صار حبا حقيقيا، و إنما يكون حسابات تؤدي إلى نتائج.
قاطع فكري موجات صوتها الرقيق عبر الأثير القصير بيننا.
سألتني: - هل يحب العاشق للحبيب السوء؟
هززت رأسي نافيا في عصبية، أردفت: - فإن جر ذلك الشعور الذي نسميه حبا على الحبيب شرا إذن؟
- يكون تضحية في سبيل ذلك الشعور النبيل.
- و هل من النبل أن نضحي بالسلام في هذا العالم لأجل رغبة في دواخلنا؟
لم أجد ردا. قالت: - كنت قريبة من عائلة كوبوليت، وكان روميو من عائلة مونتيجيو..عائلتان عدوتان منذ ولد وولدت. كنت أرى في حبنا ويلا سيجره ذلك الحب إن كنت قد بادلته إياه.
قلت مغتاظا: - تبررين برود المشاعر في داخلك.
- و ليكن. هو برود أفضله عن نار تجر حربا، و حربا تجر خرابا و موتا. برود يجر سلاما أجمل من لوعة تجر الحمم.
- قاسية أنت!
- قسوة تجاه قلب واحد خير من قسوة تجاه عائلة بأسرها.
- لن تصلحي الكون، و قد أحب روميو بعدك و نسيك تماما.
- هذا هو الفارق بيني و بينه. هو مراهق يندفع وراء رغبة و غريزة يسميهما حبا، و أما عندي فالعقل هو الحكم في النهاية.
- لقد خلُدت قصته و جولييت كل هذه المدة، أما أنت فلا يكاد يذكرك أحد.
- هذا من فعل شكسبير. أراد أن يجعل من الحب المدلهم بطلا ساميا، و نسي أن العقل يستحق الذكر و التبجيل، فجعلني من المنسيين.
- تعاتبين شكسبير؟
هزت رأسها، و قد أطلقت ناظريها في الأثير البعيد، و قالت: - نعم أعاتبه. لقد جر على روميو ويلات ألقت به في غيابة الموت في الأخير، فلم يسمعه صوت العقل، و لو فعل لكان حيا.
- حزينة على روميو؟
بدت عيناها لامعتان من أثر عبرة ساخنة، و قالت: - كان شكسبير أنانيا.. لأجل ذلك الحب الذي صنع عُذبت نفوس، و جالت سيوف، و أُزهقت أرواح..ثم طواني أنا في ظلمة النسيان.
….
….
استأذنت في الأخير.
تركتها و إن ظلت كلماتها تجول في جنبات النفس كجرس يدق بسؤال ملح: هل كانت روزالين على حق حين آثرت السلامة و ابتعدت عن شرارة النار و لوعتها، أم كان الحق مع شكسبير أن خلّد اسم روميو و حبيبته جولييت في سماء العشاق، و جعلها- روزالين- تسقط في عالم النسيان؟
لست أدري.
التعليقات مغلقة.