قبل الطوفان .. بعد الطوفان …
أحمد عثمان
قبل الطوفان .. بعد الطوفان ..
بعد عناء سنين طالت – قضَوْها بين بحث واستقصاء وتنقيب، يقاسون لفح الرمال القاحلة تحرق جلودهم، وتوحش برودة كاسرة تغتال صدورهم – عثرت البعثة عليه؛ متكوراً في عمق كهف مهجور ..
اختلفوا حول عُمره .. خمسمائة سنة، ألف، ألفان، آلاف ..
لحسم الجدل حملوه إلى معاملهم، أشبعوه فحصاً وتحليلاً، من شعر رأسه حتى أظافر قدميه .. استنفروا لمكنونه أحدث أجهزتهم… حين سرَى الإشعاع تحت جلده، وتدفَّقت الموجات تخترق جوفه؛ تململ الجسد، ثم اهتز.. يزداد اهتزازه.. يشتد، يتصاعد بلا انقطاع .. شهقة عاتية مدوية تندفع إلى رئتيه؛ ينتفض – على إثرها – جالساً، يرْجِعُها بركانَ حِممٍ، وركاماً كريهاً ينطلق عابراً فمه، يسابق حريق صرخته المتمددة؛ يتردد صداها في أرجاء المكان .. تداعَى على صخبها كل من سمعها، تكاثفوا حوله يحملقون، ويسجِّلون ..
ينفض اليبس عن جفنيه .. يفتحهما، يتلاشى الضباب شيئاً فشيئا .. ما إن صفا حتى أرسل عينيه تجوسان في أنحاء المختبر؛ يبحث عن كهفه .. !! لم يجده، استنكر كل ما حوله، أعشتْه المصابيح المبهرة التي تترصَّده .. يتكور مبتعداً إلى ركن قصيٍّ قدَّره شديداً، يدفع الأضواء والعيون عن ناظريه بكفَّين يرتعشان..
أصواتٌ مبهمةٌ تترَى؛ تأتيه من بُعدٍ يجهل أيناه، يصيخ السمع.. ما تلبث أن تتضح، وتعلو رويداً رويدا .. تقتحم أُذُنيه حمحماتٌ وصهيل، قعقعاتٌ وصليل، يتكور أكثر، يتصاغر مذعوراً .. من جديد يزلزله ضجيجٌ شرسٌ لا يهدأ، هديرٌ وأزيز لا ينقطع، زخَّاتٌ وانفجارات تتوالى بلا نهاية، رعبٌ يجتاحه؛ معه يزداد تكوُّراً وتصاغراً حتى كاد أن يتلاشى .. حُجُبٌ من ضبابٍ كثيفٍ تعود، تلتهم الموجودات، وتتوارى من ورائها الآفاق، من عُمقها
السحيق يأتي صوته ممروراً، يتردد صداه في آذانهم كرنين معدني، ينتزع أرواحهم انتزاعا:
- لا فائدة .. لا فائدة .. رُدُّني إلى مأمني ..
(تلك كانت آخر صرخاته قبيل أن يغمرهم الطوفان من جديد .. وآخر ما دوَّنت ..)
التعليقات مغلقة.