قراءة إبراهيم معوض في “سلك شائك” لمحمد كمال سالم
إيمانا مني بأن القارئ شريك أصيل للكاتب وإن كان العبء كله يقع على كاهل الكاتب من أجل بناء نصه، فإن هناك حمل ثقيل آخر يقع على القارئ كي يعيد تفكيك جزيئات هذا البناء ليسهل هضمه.
فإن القارئ لا يجب أن يكون مجرد صومعة لتخزين أفكار الكاتب، وإنما يجب أن يكون آلة تصنيع ومصفاة، ينفض الخيوط المتشابكة ويعيد غزلها في عقله ولا مانع من استخدام وجدانه الشخصي أو تقمص وجدان الكاتب حال تناوله للنص
وفي هذا قال الكاتب والناقد الإيطالي أمبيرتو ايكو
“ﺍﻥ ﻛﻞ ﺗﺨﻴﻞ ﺳﺮﺩﻱ ﻫﻮ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﺳﺮﻳﻊ؛ ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺍﻟﻜﺎﺗﺐ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻨﻲ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﻳﻌﺞ ﺑﺎﻟﺸﺨﺼﻴﺎﺕ ﻭﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻛﻞ ﺷﺊ، ﻫﻮ ﻓﻘﻂ ﻳﻠﻤﺢ ﻭﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﻪ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻤﻠﺊ ﺍﻟﻔﺮﺍﻏﺎﺕ ﺍﻟﺒﻴﻀﺎء، ﻓﺈﻥ ﻛﻞ ﻧﺺ ﻫﻮ ﺁﻟﺔ ﻛﺴﻮﻝ ﺗﺘﻮﺳﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﺒﻌﺾ ﻣﻬﺎﻣﻬﺎ، ﻭﺣﺬﺍﺭ ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻨﺺ ﻛﻞ ﺷﺊ”
ولهذا فقد شرعت في كتابة هذه القراءة بكوني مجرد قارئ فقط ولا علاقة لي بالنقد والتحليل من قريب أو بعيد لأنني ببساطة لا أملك أدوات النقد ولا أعرف سبله، وإنما مجرد بصر قد يصيب أو يخدع في مساعدة آلة الكاتب وملء الفراغات البيضاء، وما اعتدت على تقديم مثل هذه القراءات إلا لأناس أثق في تقبلهم للرأي الآخر أولًا، وفي أعمال يروق لي قراءتها كاملة أكثر من مرة ثانيًا
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
“سلك شائك” اتخذ الكاتب هذا العنوان عتبة لنصه وهو مكون من كلمتين أولهما توحي بالمنع والأخرى توحي بايذاء من يقترب؛ أي أنه منع مشدد من سلطة قادرة قاهرة تستطيع أن تمنع وأن تحجز وأن تقيد الحريات الانسانية كلها بما وقع تحت يديها من السيادة المطلقة مكنتها من وضع معارضيها قيد المنع والجبر.
عنوان موفق وموحي بما نحن مقبلون عليه من نص مميز.
“الشتاء لايريد أن ينقضي!”
هكذا استهل الكاتب نصه، وجميع المنشغلون بالقراءات السردية يدركون ماهية الشتاء عند كتاب الحكي؛ فما هو إلا معبر عن برودة تأكل الجلد وترقق العظام، وهنا تجاوز الكاتب مفردة الشتاء بكونها إشارة زمانية ليجعلها رمزا أعمق من ذلك بأن جعله لايريد أن ينقضي، وكأن الزمن قد توقف في هذه النقطة من العالم، وصار بردا لا ينتهي كبرودة ساكنيها المستكينين الراضين بكل أنواع الظلم والتنكيل الواقعة على سكان السلك الشائك متعللين بأن هذا المصير بعيد عنهم؛ فصارت مشاعرهم باردة كبرودة هذا الشتاء الذي لا ينقضي.
وهم لايدركون أن السيل قادم لامحالة ليجرف العشش والأقمشة بل ويعربد بالأسقف التى ظنت نفسها عالية؛ وهنا جاء دور الكاتب الحصيف الذي أشار إلى ذلك كله بمفردات غاية في السلاسة والعمق وبلا مباشرة وكأنما يشير فقط إلى كهف الخطر دون الولوج إليه ليزيد من صعوبة مهمتنا كقراء فعلينا أن ندخل عقولا ومشاعر لنعلم أن السيل قد يجرف الجميع قريبهم وبعيدهم فالكل في بؤرة الخطر.
“جَرفت السيول الصفيح والأقمشة، لم تمنعها أسقف مهترئة، أو جدران مُقامة، من قديم لافتات ممثلي الشعب!! من أن تكنُس المُخيَم بالكامل، فِراشه الرث، أوانيه الجائعة تسبح فوق المياه الجارية.”
توقفت طويلا عند “جدران مقامة من قديم لافتات ممثلي الشعب” فإن ما هو مسكوت عنه في هذه الجملة تحديدا أكثر مما هو مكتوب؛ وهذا يدل على نفاذ بصيرة من الكاتب وكأنما يتمنى أن يجد عندي بصيرة مثلها كي أقوم بملء المساحة المسكوت عنها بمئات المقالات عن الوعود الكاذبة من ممثلي الشعوب التي تذهب أدراج الرياح مع أول سيل جارف من التحديات الحقيقية، فما كان لهم من دور غير أنهم نائمون في دفء قصورهم تاركون الشعوب خلفهم نهبا للعراء والسيل والظلم من كافة القوى الباطشة، ولم يمنحوهم سوى لافتات مستعملة من قبل مثل ماكتب عليها من شعارات، أظن أن بينها “أنا منكم ولكم”
ثم استمر الكاتب في وصف مأساة مخيم اللاجئين مع السيل والإقامة الجبرية مستخدما نصله الحاد من خلال مفردات سردية أختارها بعناية فائقة ليرسم لوحة وصفية متكاملة فقد قال:
“الرجال يلهثون خلف رحلِهم الهاربة، يجاهدون في تدعيم جدران الوهم، جدران لا ينالون منها دفئا أو سترا، جدران لا تمنحهم إلا الانزواء، لا تستر منهم إلا دموع الانكسار.
النساء شاخصات كالصور، كأشباح سودٍ في لوحةِ فنانٍ مكتئب، كأبدان حُنِطت في خواء.”
ثم يأتي دور “يعقوب” البطل و”نضال” الأمل، ليلج بهما إلى عمق الحدث القصصي بعد سطور ماتعة من الاستهلال والوصف فهنا تبدأ الحكاية، وكما قال فورستر أن الحكاية هي الوجه الرئيس للقصة وإن تعددت الرؤي والتأويل كان أفضل؛ فأنا أرى أن الحكاية بدأت بفضيلة الإيثار، فقد تمنى الأبوين الحياة والحرية لطفلهما نضال فأرسلوه في شاحنة النجاة -هكذا يظنون- وحده طالما أن ليس لهم مكان فيها؛ يكفيهم أن يؤمنوا المستقبل، فصادفوا النبيل يعقوب فتلقفه منهم وآمن بما آمنوا به أنه قد يكون مستقبل أمه كاملة فمنحه لقب “إبن الوطن” ولما جرف السيل الجميع تملك الجزع من يعقوب أن يكون الوطن قد فقد إبنه فلم يبحث عن أنقاض خيمة مهترئة ولا بقايا صحون طوحها السيل وانما صرخ بأعلى صوته يطلب “نضال”
وقلبه ملتاع أن يكون الموج قد حال بينهما فكان من المغرقين؛ فيغرق معه الأمل والوطن والحقوق.
ثم تظهر للحكاية أبطال آخرين: “الجار” و”القطة”
فالجار خير مثال لمن نال اليأس منه وقد بدا ذلك جليا في جملة “إبن وطنِك؟! لم يعد يجمعنا إلا تلك اللكنة التي ملأت العالم تشريدًا، لا وطن يجمعنا !”
والجميل أنه بعدها أبصر نجاة القطة بأم عينيه فكأنما وقف متأملا مشدوها لهذا الحدث الفارق -هكذا رأيته-
وكأنه تساءل: لم نجت القطة؟ هل لأنها تحمل ضميرا نقيا؟ أم لأنها لاتكترث بالظلم فهي حرة أكثر؟ أم لأنها بسبعة أرواح ويجب ان نكون مثلها؛ كلما مات منا فرع نمت مكانه فروع.
ما راق لي في القصة إختيار الأسماء “يعقوب” إشارة إلى الصبر والاحتساب مع عمق الحزن والأسى تيمنا بيعقوب النبي وهو يقول: “عسى ربي أن يأتيني بهم جميعا” برغم أن عينيه قد ابيضتا من الحزن.
“نضال” تمنى الكاتب كما تمنينا أن يكون لنا من اسمه نصيب.
تنكير “الجار” دون ذكر اسمه يدل على أن حاملي اليأس والاستكانة كثيرون في وسط يعج بالشتاء والسيول.
تمنيت ألا يذكر كاتبنا الراقي “حلب الشهباء” كي لا يوجه القارئ لقضية عربية واحدة ومعينة وخصوصا أن النهج العام للقصة يصلح لكل حال عربي؛ فجاءت هذه الكلمة ووجهت بصري عنوة إلى زاوية واحدة وكأنما قال لي فجأة: أنظر هنا فقط.
وفي النهاية أسجل هنا أنني تمتعت بهذه القصة وقرأتها عدة مرات وتمنيت أن لو كنت أنا من كتبها ولكن عزائي أن كتبها صديق وأستاذ وأديب مقرب إلى نفسي.
إبراهيم معوض
“سلكٌ شائك”
الشتاء لا يريد أن ينقضي!!
جَرفت السيول الصفيح والأقمشة، لم تمنعها أسقف مهترئة، أو جدران مُقامة، من قديم لافتات ممثلي الشعب!! من أن تكنُس المُخيَم بالكامل، فِراشه الرث، أوانيه الجائعة تسبح فوق المياه الجارية.
والمشردون علي حدود البلد الشقيق في المخيم،
أصبحوا مشردين!
الرجال يلهثون خلف رحلِهم الهاربة، يجاهدون في تدعيم جدران الوهم، جدران لا ينالون منها دفئا أو سترا، جدران لا تمنحهم إلا الانزواء، لا تستر منهم إلا دموع الانكسار.
النساء شاخصات كالصور، كأشباح سودٍ في لوحةِ فنانٍ مكتئب، كأبدان حُنِطت في خواء.
الشيخ يعقوب يهرول بينهم مضطربا، يسألهم:
أين نضال؟ ألم تروه؟! يانضااال، أين أنت ياولدي؟!
يقترب منه أحدُ جيرانه، يسأله:
أين ذهب ولدُك؟
يقول في حيرة ولهفة:
لا أعلم، يصيح في خلاء مخضب بالماء والوحل “يانضااال”
جاره: دعني أبحث معك عن ولدك.
- ليس بولدي، إنه،،إنه،،”يانضاال”
يقول في صوت ملهوف مرتجف: ابحث معي عنه ابن وطني.
جاره: إبن وطنِك؟! لم يعد يجمعنا إلا تلك اللكنة التي ملأت العالم تشريدًا، لا وطن يجمعنا !
انتبها على مواء قطة،تستغيث، يجرفها الماء.
الشيخ: هذه قطة نضال، هاتها يا جاري بسرعة أرجوك.
يحتضنها الشيخ، يجففها بقميصه المبتل، يحدثها:
أين نضال؟ ألم يكن يرعاكِ وأطفالك؟! يبكي، يتكئ علي ذراع جاره، قائلا:
ليس بولدي، إنه وحيد هنا يشبهني، كان أبواه يحاولان الفرار به من هول القصف، من هول موت يأتي من كل صوب في حلب الشهباء.
“يانضاال”
يلقف أنفاسه، ثم يستطرد:
اصطدمت بهم، نتمسح بالجدار في الحارة، تحت جنح الظلام، نحاول اللحاق بالشاحنة الهاربة، لكنها كانت امتلأت، وهمت بالرحيل، أشفق سائقها علي شيخوختي، واستثناني من الناس، وحشرني وسط الأبدان في الشاحنة.
“يا نضاال”
لهث أبواه خلفَ الشاحنة يرجواني: خذ الولد، خذ الولد ، انقذه أن يجنده الطاغية، أو تخطفه غربان الراية السوداء.
مددت يدي بين الجموع، ساعدوني، والتقفت الولد من علي الأرض للشاحنة،”بينما ركعَت أمه، تمد يدها للشاحنة تبكي.
يانضاااال”
يقاطعه جاره: سلك شائك ياشيخ، انتهى المُخيم، هيا نعود.
صوت يصدر من خلف نتوء صخرة، يغلبه هدير ماء السيل، تحسسا السير إليه،فإذا بالفتى، يضُم هرَّة إلي صدره، يجففها بقميصه المبتل، يكلمها بصوت كالبكاء:
أين أمك؟ أين أخوتك الكثرُ،
ماحيلتي فيكِ وفي تشردك الآن؟!
التعليقات مغلقة.