قراءة انطباعية في قصة قصيرة جدا بعنوان «ضوء كاذب» للأديب المصري محمود روبي
بقلم: عاشور زكي وهبة
أولا: النصّ
ضوء كاذب
وأنا أزحف للخلف مذعورا في طريق ممتدة… كنت أصعد ثم أهبط، فأتدحرج كالأعمى في حلكة الليل… غير أنه في نقطة ما، اتّسعت عيناى وانتصبت قامتي مثل فرس جامح… ولمّا غمرتني نشوة الانتصار، تعثّرت قدماى بعكّازي.
ثانيا: القراءة
١.العنوان: ضوء كاذب
من فنيّات الققج أن يحتوي العنوان على مفردة واحدة نكرة يضمر، ولا يبدو كاشفا للنص.
لكن القاص استخدم مفردتين: ضوء/كاذب، فهل خدمت الصفة الموصوف؟
ضوء كاذب يبدو كالسراب الخادع/الهباء المنثور/الزبد الطافي أعلى السيل الجارف/حمل كاذب لأنثى… إلخ.
يقول تعالى في الأية 61 من سورة الفرقان:
«تبارك الذي جعل في السماء بروجا، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا».
ينتج الضوء من أشعة ضوئية للنجوم كالشمس،
أما النور يحدث نتيجة انعكاس أشعة الشمس من على كوكب أو جسم معتم كالقمر.
بالتالي فإن الضوء أقوى من النور.
ووصف الضوء بالكاذب يرشدنا إلى خلل أو خداع ما في هذا الضوء أو فيمن يراه، فهيا نلج إلى المتن علنا لا ننخدع بهذا الضوء!
٢.المتن
بدأ القاص الجملة الأولى مستخدما ضمير المتكلم (أنا) مسبوقا بحرف عطف الواو، وكأننا أمام مجزوءة أو مقتطف من نص أو سيرة حياة/قصة قصيرة/رواية طويلة.
واستخدام ضمير المتكلم في السرد يعطي انطباعا باشتراك الثلاثة في الحدث: القاص/ السارد/ القارئ أو المتلقي، ثلاثة في واحد.
الجملة الأولى اسمية يليها فعل مضارع:
(وأنا أزحف للخلف مذعورا في طريق ممتدة…)
يحكي لنا القاص قصة رجل يبدو زاحفا ليس للأمام؛ بل يتقهقر يستولي عليه الذعر في طريق ممتدة/حياة طويلة مديدة/سكة سفر، أو سبيل الحياة الدنيا يبدأ الإنسان فيها زاحفا لا يستطيع خوض الطريق، كونه ما يزال رضيعا لا يقوى على السير. فيبدو كحيوان زاحف هارب مبتلى بالذعر، الذي يعلو في الدرجة عن الخوف…
«ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع…».
استخدام الأفعال المضارعة يدل على استمرارية الحدث والتجدد والاستحضار الدائم للصورة، وكلها تعبر عن حركة سلبية: أزحف/ أصعد /أهبط /أتدحرج، فهي للقهقري ما بين صعود وهبوط ودحرجة.
حركات قهقرية مذعورة بلا تقدم للأمام تتغير صعودا وهبوطا كمؤشر البورصة أو نبضات القلب، يليها دحرجة في ظلمات ودركات كالعميان في حلكة الليل، ظلمات ثلاث كحركة الجنين في بطن أمه… يزحف حركاته الأولى.
يتصاعد الحدث عند نقطة ما ويتحول عندها الكائن الزاحف إلى كائن يسير على أربع.. فرس جامح/ طفل يحبو على يديه وقدميه/ركبتيه.
المرحلة الثانية: الركض على أربع، والفضول يجعل عينيه تتسعان رغبا ورهبا، فرحا بتحوله من حيوان زاحف كالثعبان إلى كائن راكض كالفرس الجامح كجري الوحوش ذوات الاربع!
في النهاية يضحى إنسانا يقف على قدمين بمساعدة عكّازه الذي يتعثر فيه أثناء خوضه غمار الحياة، مما يدل على وصوله إلى مرحلة الشيخوخة والعجز.. لا يستطيع السير إلا بمساعدة قدم اصطناعيّة: عكّاز الشيخ العاجز!
بالتالي في القصة تحكي حكاية شيخ عجوز في حركة فلاش باك مراحل حياته المختلفة، تنتهي بالقفلة الصادمة لدى إحساسه بنشوة الانتصار كفرس جموح طموح، وفارس مغوار يملأه الشباب والفتوة والنضارة، كنجم شارد يضيء مشارق الأرض ومغاربها، يصحو من غفلته ليجد نفسه عجوزا بلا حول ولا قوة، يتعثّر في عكّازه!
«إنك لن تخرق الأرض،ولن تبلغ الجبال طولا».
وهكذا ترجعنا هذه القفلة المدهشة الصادمة إلى العنوان: ضوء كاذب.. يبين مدى تفاهة هذه الحياة الدنيا.. متاع الغرور، كحشرة يبهرها وميض الدنيا الكاذب فتحترق به عند دنوها منه.. يجري فيها المرء كالوحوش الضارية، وينتهي به المطاف بالتعثر والعجز كالنجم الأفل.
الأية الخامسة من سورة الحج تلخص مراحل حياة الإنسان المختلفة.
في الختام أحيي أستاذنا المبدع على قصته الوامضة، متمنيا له دوام التوفيق.
في أمان الله.
الإثنين 2023/6/12
التعليقات مغلقة.