قراءة في قصة قصيرة”هارب من الطفولة” للقاص العراقي ..رعد الأمارة… بقلم عاشور زكي وهبة
قراءة في قصة قصيرة”هارب من الطفولة” للقاص العراقي ..رعد الأمارة…
بقلم عاشور زكي وهبة
أولًا: نص القصّة
قصة (هارب من الطفولة )
كنت صغيرا حين فعلتها جدتي، وضعتْ الصينية الكبيرة أمامها،ثم شمرت عن ذراعيها، أخذت ترص فيها الأشياء،قالت وهي تزن شطارتي بعينيها البنيتين شبه الغائمتين :
-تعال ياولد، اجلس هنا لتتعلم!قطع الكيك هذه سبعة وعليك أن تحضر ثمنها جميعا!ازاحتها بأصابعها السمراء جانبا وقد علق بعض الدقيق فيهما ،تنهدت وسعلت ثم أكملت :
-هذا بيض الفأر، وهذه حلوى الجمال، تبيعها بسعر واحد، هل فهمت يا صغيري!؟. راحت أمي تشجعني وهي تهز رأسها ضاحكة، كان الأطفال الآخرون قد تجمعوا حولنا، مسحت أنفي بطرف ردائي، لكن وجهي أشرق فجأة حين أشارت لقطعة كيك كبيرة تعلوها حبات من السكر اللامعة، قالت وهي تضمني لصدرها :
-هذه القطعة ستكون من نصيبك عندما تعود. واصل جمع الأطفال المشاغبين من أخوتي وأبناء الجيران الضحك وتبادل الأشارات وهم يرمقون جدتي ،عندما وضعت خرقة فوق رأسي،بعدها عدلت من وضع الصينية الطافحة بالحاجيات، فيما راح الذباب يدور ويدور وكأنه يشارك الأطفال صراخهم وضحكهم المتواصل. لم تكن المدرسة الأبتدائية المختلطة بعيدة عن دارنا، بضعة أمتار فقط، كان بودي الأستدارة لرؤية وجه أمي، كان لدي شعور كبير بأنها تقف هناك خلف الباب الخارجي ،ترمقني بعينيها الواسعتين المكحلتين شبه الدامعتين! .وضعت الصينية أرضا بعد أن بذلت جهدا لأحفظ توازنها، تم الأمر بسلام أخيرا، كان المكان خاليا من أي أثر لطفل أو حيوان! لم تحن فرصة خروجهم بعد، حدقت يمنة ويسرة، آه، اخوتي وأطفال الجيران يقتربون وهم يتلصصون، قذرون! لحظات وأخذ قلبي يدق بعنف، أنه جرس المدرسة الكبير يرن، كنت أسمع صراخ الأطفال الآن ودبيب خطواتهم، تحلقوا حول الصينية، راح بعضهم يرمق البائع الجديد بفضول، فيما أخذ أكثرهم يشيرون بسباباتهم صوب قطع الكيك الضخمة ذات السكر الأسمر اللامع. تقدم أحدهم، طفل بثياب نظيفة، أشار لواحدة، لكنه لم يلمسها، أخبرته عن ثمنها بصوت منخفض وقد تضرج وجهي، كدت أرقص فرحا، لقد دس يده ونقدني الثمن! ارتبكت قليلا، ظل ينتظر قطعته فيما أخذ بعض الصبية يضحكون، تداركت الوضع، حملتها بسكرها بعد أن دسست تحتها قطعة ورق بيضاء ومددت يدي المرتعشة، أخذ الفضول يلون ملامح الأطفال الآخرون، كانوا يحدقون للطفل ذو الثياب المرتبة، امتدت أكثر من يد، أقترب أخوتي، بعضهم وقف فوق رأسي يراقب ويتأكد، انقضى الوقت بسرعة، وقبل رنين الجرس كانت الصينية قد فرغت إلا من بعض الفتات الذي أصبح وليمة مجانية للذباب العنيد. حمل واحد من أخوتي الخرقة عني، فيما سار أمامنا باقي أشقائي وهم يتناوبون على حمل الصينية والتطويح بها، كانوا سعداء، وقد كفوا فجأة عن الضحك من منظري، لكني كنت أكثر سعادة منهم. سبقني أخوتي في الدخول وهم يهللون، تركت أمي أشغال الدار، بخطوات مسرعة احتضنتني من الخلف وراحت تشمني وتنحب! رمقتها جدتي بغضب، كانت تقف عند باب غرفتها،كفت أمي لكنها واصلت تقبيلي في رأسي، قبل أن تمتد يد جدتي المعروقة بقطعة الكيك الكبيرة!لمعت عيناي وشيئا فشيئا اتسعت ابتسامتي ، وجدت نفسي أضحك مثل الأبله وأنا أخبىء جسدي في ثوب أمي، وسرعان مابكيت!.كنت متعبا وقد رفضت تناول الغداء ،كانت جدتي وأمي وأخوتي الصغار قد فرغوا من تناوله ، وجدت نفسي أغفو فجأة فيما دارت ذراعي حول الطبق الذي ضم قطعة الكيك. لم يمض وقت طويل عندما استيقظت،وجدت أمي ملتصقة بي وقد تركت أصابعها تعبث في شعري، فيما تحلق أخوتي حول جدتي، آه، كانت تقص لهم حكاية! دارت عيناي في سقف الغرفة، ثم استقرت على قطعة الكيك، نهضت وأنا انظر صوب رؤوس أخوتي بمحبة، أنهم أخوتي، لم يعودوا قذرون! همست في أذن أمي، حدقت فيَّ مبهورة، راحت جدتي تنظر صوبنا بفضول وهي ترى قبلات أمي المتواصلة على رأسي وخدي، رحت أضحك بصورة متواصلة، نهضت أمي بعدها وهي تحمل الطبق، وضعته بين أخوتي ،قالت بصوت غلب عليه نبرة البكاء :
-هذه لكم، قسّموها بينكم. أدارت وجهها الغارق بالدمع صوبي وأكملت :
-يقول أنه رجل البيت الآن.
بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد
ثانيًا: القراءة الانطباعية
من المعلوم أن مشكلة عمالة الأطفال من أكثر المواضيع التي تناولتها وأفاضت فيها الكثير من الأعمال القصصية أو الدرامية؛ لكن القاصّ عرضها من وجهة نظر مختلفة جُلّ الاختلاف…
كثيرون هم مَن لم يعيشوا طفولتهم؛ لكن كيف يهرب طفل من طفولته؟!
هذا السؤال تجيب عنه قصة (الهارب من الطفولة).
من الجملة الأولى باستخدام صيغة المتكلم يحكي لنا بطل القصة:” كنتُ صغيرًا.. ” أي أنه أصبح رجلًا منذ طفولته الباكرة، وتحمّل مسؤولية أسرة مكونة من الأم والجدة والأخوة الصغار.
تطالعنا الجدّة في بداية القصة بحديثه عنها:” قالت وهي تزن شطارتي بعينيها البنيتين الغائمتين.. ” عينا الجدة كفتا ميزان تزن الرجولة المبكرة للطفل البطل. كما أن أسلوب التعزيز الجميل الذي استخدمته الجدة كحافز للطفل بعد نجاحه في مهمته الأولى في عالم الرجولة:” بيع قطع الحلوى السبع” كان دافعًا للإنجاز للحصول على (قطعة كبيرة من الكيك).
عملية تجارية طفولية أجرها لم يكن نقديًّا؛ بل عينيًّا كنظام المقايضة.
ما بين تعزيز الجدّة وتشجيع الأم (الكبار من جانب) وسخرية الأخوة الصغار و أبناء الجيران من جانب أخر احتار الطفل وأحزنه تثبيط وسخرية الأخوة والأقران منه.. لذا وصفهم ب”قذرين” كالذباب المشاكس الذي يحوم حول صينية الحلوى.
وها هو الطفل الذي لم يزل يمسح أنفه في طرف ردائه يتحرك خطوات قليلة فاصلة ما بين البيت و سور المدرسة الابتدائية مرّت كالدهر.. طريق الألف ميل للهروب من الطفولة بدأت بهذه الخطوات، تؤازرها عينا الأم المكحلتان الواسعتان الدامعتان، وعيناالجدة البنيتان الغائمتان؛ وتثبطها وتسخر منها عيون الصغار المتربصة كي لا يهرب من عالم الطفولة (اللعب واللهو والعبث) إلى عالم الكبار حيث (التعب والنصب والمسؤولية).
لكن الطفل مصممٌ على الهرب من عالمه.. انقضت المدة الوجيزة من صعود الصينية على الرأس حتى هبوطها إلى الأرض كعمر كامل على الطفل الهارب.
ودقّ قلبه مع رنين جرس الفسحة،لأنه يواجه المجهول…
تطالعنا القصة أيضًا بصورة التلميذ ذي الثياب النظيفة المرتبة والمصروف السخي الذي يحظى بالرعاية والكرم من أبويه؛ وليس مدفوعًا للقيام بدور الرجال كبطل قصتنا.
نجحت المهمة وبِيعَت القطع السبع؛ وانقلب الصغار (الأخوة والأقران) الساخرون المتلصصون القذرون إلى أتباع مؤازرين يحملون الصينية الفارغة من الفتات الذي صار وليمة للذباب العنيد..
فإذا كان الذباب قد حصل على الفتات، وتناول الأخوة الصغار الغداء، فتحليتهم كانت قطعة الكيك التي تنازل عنها الطفل الهارب إلى موقع الرجولة والشهامة لأجل فرح ومرح أخوته الصغار الذين لم يعدوا قذرين؛ بل أخوة يحتاجون لرعاية أخيهم الكبير الذي لم تعد تبهره الحلوى كالصغار.
في الختام أحيي صديقي رعد الأمارة على هذه القصة الرائعة، متمنيًا له دوام التوفيق.
صديقكم: عاشور زكي وهبة (المنيا/مصر)
السبت 11/6/2022
التعليقات مغلقة.