قراءة للأستاذ محمد كمال سالم في نص ” خريطة” للأديبة منى عز الدين
قراءة الأستاذ محمد كمال سالم
“قرأت لكم”
تعودت ألا…
لا لا، لفظة تعودت غير سليمة.
جُبلت على ألا أتحمس إلا لما يلمس وجداني وأنفعل به، وإن لم ينفعل به غيري، تجدني وقتها أصيح متحمسا كنغمة نشاز بين أوركسترا متناغم، ولا أكترث وقتها للمستغربين واندهاشهم من انفعالي.
هكذا فعلت بي هذه القصة “خريطة” للأستاذة منى عز الدين.
ولا أقول هنا أنها لم تُدهش غيري، أبدا فقد نال النص كل إعجاب وتقدير، لكنه ظل يسكنني طويلًا، أنتظر اللحظة التي تداهمني قريحتي للحديث عنه.
أدب المهجر مفردة تصيب مثل هذا النص في الصميم، والتاريخ قص لنا نماذجا حية على خريطة واقعنا المعاصر
( سرانديب، محمود سامي البارودي.
أحن إلى خبز أمي، محمود درويش.
بكائيات بيرم التونس في المنفى.
خريطة منى عز الدين:
رغم بساطة السؤال، كان عمق السرد وفداحة الألم وحيرة الإجابة،
سؤال بديهي لا يتجاوز الكلمتين ( ما هوايتك)
إجابته عند معظمنا -القراءة- سواء كنا نقرأ أو لا نقرأ، ولكن!!
كيف حولته الكاتبة لسؤال معقد التراكيب،
ماهوايتك؟
ما هويتك؟
ما شعورك؟
ماذا جرى، وكيف جرى، وكيف أصبحت هنا؟
تتناول بعضها وليس لديها رفاهية الامتعاض، لكن كان لديها رفاهية البوح الداخلي كلما تكرر السؤال، وأمسكت بمهارة دفة الحوار الذاتي، وكيف جسدت حالتها والصورة التي أصبحت عليها المُعلمة ونفاد صبرها، وكيف راحت تحلم في سنابل القمح الوافر في بلادها التي لفظتها، لما راحت تعبث بخصلاتها الصفراء كصفرة الحقول المائجة.
ومن أين تأتيها بإجابة (وقد ضيع الفلاح غرباله وداهمه الخريف) !!
يالها من بلاغة اختزلت كثير من السرد وأضافت أمواج متلاطمة جديدة إلي النص، فنرتبك كارتباكتها أمام أقرانها عندما تاهت في الإجابة.
تضج القاعة بالضحكات، تتراكم أوجاع ضياعها وتلعثمها وتتراكم الغصة في قلوبنا دون أن تتكلف لغتها أو نسمع صرير قلمها على الأوراق، بل يعلو نشيجه.
يخونها لسانها فتكثف عمرٌ يضل في منفاه، ويرديه الأسف على أستاذيتها في موطنها:
إنني أنظر موقع قدمي،
لا أرفع رأسي لأنظر للأمام، ولا ألوي عنقي للخلف، فقد يبتلع الطريق الآثار وأتوه بعدها.
تردد الضحك بالقاعة، يتردد في أعماقنا الأنين.
ثم تأتي الإجابة بلسان غريب عنها مجسدة آلام أمة بأثرها.
إليكم النص/
قصة قصيرة خريطة بقلم منى عز الدين
رغم بداهة السؤال، والذي رافقت نمطيته أيام طفولتنا، إلا أنني وقفتُ أمام المعلمة عاجزةً، لا أدري ما الذي أربكني وأنا الأستاذة في بني قومي؛ لكنني ولأول مرة ينتابني شعور بالمسؤولية عن صدق ما سأجيب عنه. أحاول فتح سجلات ذاكرتي علّ قاموسها المعتاد يسعفني بجواب؛ لم أفلح.
لابد أن الفضول خيّل لكم سؤالاً خارقاً، المفارقة هنا أنه لم يكن كذلك، كان سؤالا اعتياديا يُسأل عنه كل مهاجر في بداية مراحل تعلمه للغة بلد المهجرسؤال نظنه سخيفا، ويرونه ضروريا للتعريف بهويتك الشخصية؛ لا يتعلق بصفاتك الخارجية وإنما يغور إلى تقاسيمك الداخلية؛
لم يتجاوز الكلمتين؛
-(ما هواياتك)؟
خطر لي أن أجيبها بذلك الجواب التقليدي الذي كنا نقذفه دون أدنى تفكير (المطالعة).. لكنني أحجمت، ربما لأنني الآن أمام ثقافة جديدة، أحبو على مسننات حروفها، أتناول بعضها وليس عندي رفاهية الامتعاض،
أو ربما لأنني كنت أقرأ من هنا وهناك دون تعمق في أي شيء فما حصيلتي إلا قليل القشور، وهذا السبب الأرجح، إذ افتقدت الدفة في ذلك الإبحار فعزّ علي شاطئٍ الوصول.
إذن لأبحث عن هواية أخرى؛
موسيقا؟ لاأحبها..
رياضة؟ لا أمارسها..
رسم؟ لا أتقنه..
كتابة؟ ليس عندي الجلد والصبر لإتمام أي شيء بدأته.
رفعت المعلمة خصلة شقراء عن جبينها، معيدةً تسويتها بحركةٍ أخفت وراءها تململها من الانتظار، فهي منظمة كخصلات شعرها المنسق الذي أعادت حزمه بعناية، وأعادتني صفرته إلى سنابل القمح المموّج، حيث لاتعبأ الأكف بقسوة القش الجارحة، فجروح القلب أعمق، وهناك ما يستحق أن تحمله على الرأس في صرة يتوهج فيها قمح فركت سنابله أيد أنضجت سمرتها شمس الأصالة.
ضيّع الفلاح غرباله وداهمه الخريف، استعجل وبذر أرضه قمحا وانتظر….مرت شهور، ارتفعت السنابل التي لوحتها الشمس بلون الذهب، وقبل أن يطلق الفلاح منجله اكتشف أن بين سنابل قمحه دخلاء من الشعير.
اتسعت حدقتا المعلمة وأخذت تنقل طرفها بيني وبين شعرها، بدأت تتلمسه لتكتشف سبب حملقتي به. تضج القاعة بالضحكات المتخللة بالغمز والهمسات.
صار لزاما عليّ حينها الإجابة بعد رحلة بحث؛ اكتشفت فيها كم هو فقير حقلي في زمن الحصاد.
في محاولة منها لكسر الصمت سألتني: ماذا تحبين أن تفعلي وما الذي لا تحبين فعله؟
نظرت لعينيها بسكينة أن قد وصل سؤالك وتم استيعابه، لتعود عيناي من جديد إلى دوامة السرح.
لم يكن عندي فرز لهذه الأمور، لطالما فعلت ماعليّ فعله ولم أمارس الأعمال أو أحجم عنها بدافع حب أو كره، أستيقظ صباحا لأضع الفطور، أنظف الأطباق، أسرع إلى المدرسة، أقوم هناك بما ينبغي وما تعودنا عمله روتينيا، أعود إلى البيت للتفكير بوجبة الغداء، ومن ثم أؤدي الواجبات الاجتماعية التي حفر قانونٌ ما في ذهني أنها واجبة علي، وكأن أمامي آثار خطوات في مشوار الحياة كل ما أفعله أنني أضع قدمي مكان الأثر وأتابع…
قطعت المعلمة المشوار بضحكة مجلجلة قائلة: أين وصلت؟
قلت؛
إنني أنظر موقع قدمي، لا أرفع رأسي لأنظر للأمام، ولا ألوي عنقي للخلف، فقد يبتلع الطريق الآثار وأتوه بعدها..
تردد الضحك في القاعة، كانت ضحكات عالية تيقنت عندها أنني أكملت حديث نفسي بصوتٍ عالٍ دون أن أشعر، وتناثرت حولي أوراق من المستظرفين وهم يقولون:
إليك الخريطة يا “سانتياغو” وهيا أكملي البحث عن كنزك.
طفرت من عيني دمعة وقلت للمعلمة بلغة ألمانية متكسرة كنفسيتي حينها:
يوما ما كنت أضحك مثلهم، وعندما أدركتُ أننا أضعنا خريطتنا بكيت.
التعليقات مغلقة.