قراءة لنص ” دهس عن بعد” للقاصة بهية إبراهيم الشاذلي.. بقلم.. زكرياء نورالدين
دَهْسٌ عَنْ بُعدٍ
أثقلَ الإملاقُ خُطاهُ، جَلسَ القُرفصَاءَ تدُورُ عيناهُ في دهاليزِ القماماتِ علّها تَنْعَمُ بعظْمةٍ عافَتْها قططُ المُنْعَمينَ أو كِسرةٍ أنِفَتها كلابُ المُتْرَفينَ… تستغيثُ ضلوعُهُ البارِزَةُ؛ يَمُرُّ مَوْكبُ ابْنِهِ.
بهية إبراهيم الشاذلي/ مصر.
الاشكالية:
لمَ كل هذا الإملاق؟ و لمَ العيش من القمامة؟ ما الذي جعل ضلوعه تستغيث في بروز؟ عن أي موكب تقصد الكاتبة؟ ومن هم قطط المنعمين و كلاب المترفين؟.
- بالعودة للنص..
نرى أن الكاتبة ذهبت لجعل قصتها مبهمة لكن بوضوح يجعل من نوافذ القصة سهلة الفتح صعبة الولوج لذا فقد استرسلت القاصة في نصها هذا بسرد جميل و متزن و ذو معنى كون الأمر يتعلق بحالة إجتماعية و كما القول المعهود فالأدب عرض حال و الحالة في النص بين ايدينا تعكس لنا مدى التضحية و التخلي إما بالرفعة أو الموت و هو جلي كذلك من العنونة المتقدمة أعلى النص و التي لامست الأحداث بحسية جد ملساء و هذا عهد القاص المتمكن مادام القص و التكثيف و الايحاء و غيرها من الشروط و الاركان ركيزة لصناعة هذا الجنس الأدبي. ما ان ولجت عتبة النص حتى استوقفتك “دهس عن بعد” كعنوان للنص بين أيدينا و القارئ لهذا العنوان يجد فيه اختبارا لمدى فهمنا للجملة و التعبير المدرج في النص و هي كناية عن حادثة أو لحظة أو خيانة أو فقد و تخلٍ لذا جاء النص قيد الشرح مستهلا لواقعة حدثت في زمن ما لشخص ما أو عدة أشخاص و الحال هو الحال بالنسبة للشخصية الرئيسة في هاته الحالة هو ذلك الشخص الذي يقتات على ما تبقى مم تركه الأغنياء و ما نراه في النص دون التغلغل فيه هو عبارة عن حالة من الصعود و اخرى للنزول قد تكون التضحية لأجل أحدهم زيف واقع لكن الامر يتعدى كون التضحية مجرد عمل نمنيه لشخص غيرنا و هو الإيثار كذلك..
دائما ما نعتمد في القراءات على القرآن و الاحاديث و الأساطير و الأمثلة و الروايات وغير ذلك مما يستلزم الإختزال و يقبله طوعا أو كراهية، أما العنوان “دهس عن بعد” فما له من دليل عن نتاص أو اقتباس، كما أن الكاتبة و من خلال التجول بأروقة النص لم تعتمد على شخصيات كثيرة بل هو عرض حال لواقع عايشه أحدهم.
- استهل الكاتب نصه ب(أثقلَ الإملاقُ خُطاهُ) هنا شعور بالحاجة و الإملاق حقيقة يثقل الخطى ما لم يتغذى الإنسان و الشيء الذي أراه في هكذا جملة هو العزة و التعفف و هي حال الكثيرين ممن أجادوا فن إخفاء الضرر الذي يعلو جسدهم(جَلسَ القُرفصَاءَ تدُورُ عيناهُ في دهاليزِ القماماتِ علّها تَنْعَمُ بعظْمةٍ عافَتْها قططُ المُنْعَمينَ أو كِسرةٍ أنِفَتها كلابُ المُتْرَفينَ) هنا القرفصاء حركة تدل على التعب و الأمر الذي جعلة يقوم بهكذا حركة هو رغبة في إلقاء نظرة عامة حول مخلفات المنعمين و التي وصفتهم القاصة بالقطط في إشارة منها لوجود شخصيات ثانوية عابرة و هؤلاء المنعمين كالقطط المنزلية لا تشقى كنظيراتها لكسب أكلها و يحدث هذا كثيرا في الانظمة الحاكمة و عائلاتهم و أصدقاءهم حيث يقتاتون على ما تبقى من لحم قوت اسيادهم و المتمثل في العضم و الفتات أو ما تبقى من كسرة عافتها كلابهم المترفة و قد يقصد هنا بالكلاب فعلا أكرمكم الله و التي غالبا ما يكون نصيبها بقايا الخبز كذلك المترفين ( تستغيثُ ضلوعُهُ البارِزَةُ) هنا دلالة على شدة الوهن و الضعف الذي تعاني منه الشخصية جراء الجوع و الفقر ما أدى إلى بروز عضامه و كأنها تشتغيث من السغاب الذي أخذ الجسد نحو النحافة و سوء التغذية(يَمُرُّ مَوْكبُ ابنه.) هنا القفلة المميزة و الجديرة بالإحترام كونها استوفت شرطها و هو الإبهار و لعل ما مميزها هو كونها تحمل في طياتها احتمالين أوله هو مرور الموكب لجنازة ابنه و الكي قضى جراء الجوع و الفقر و الذي لم يجد والده لقمة يسد بها رمقة و الإحتمال الثاني كون الموكب الذي مر هو موكب مهيب لإبنه يعكس من خلاله التضحية التي أقدم بها والده لاجل رفعة إبنه ما جعله يدنو كي يسمو و هذا هو الاقرب كون النص و بدلالاته يحاكي في سرده و أحداثه وقائع الترف و التنعم التي سبقت القفلة و هنا دلالة أخرى كون الابن لم يوف أباه حقه فتنكر له بعدما جاع لأجله و تعب و هذا حال الكثيرين من الأبناء و بعد رقيهم يتخاذلون و أولياءهم و هنا الروعة تكمن في إتصال العنوان بالقفلة اتصالا غير مباشر هو الذي يدنو و يكاد يقترب وهذا المشهد جعل الأب يحس بالدهس من صنيع إبنه دون علم من هذا الاخير. كما يبدو لي فإن الكاتبة ابرقت الينا قصة قصيرةجدا متكاملة الاركان والشروط ليست بالمفخخة مع إمكانية وجود نوافد الولوج لقراءة هكذا النص.
- هذه نظرتي.. ولعل هناك تأويلات أخرى لا تنفك تظهر للعلن ما إن تعددت القراءات.
………………………………..
نظرة سريعة على بعض خصائص النص الفنية:
1/العنوان :(دهس عن بعد) جاء نكرة غير معرف …إلخ
٢- الاستهلال: اعتمدت الكاتبة على شد القارئ بأسلوب سردي مع الحشو الذي شد انتباهنا في محاولة منها لتعدد القراءات و قلة استنباطنا للفكرة المراد بها في النص، حيث أن الكاتبة اعتمدت على قلة الوصف و ادركت أهمية الاختزال قدر المستطاع فكان لها ما تصبوه و ترومه في طرح حالتها و هذا ما يقوي الققج سواء من ناحية الشروط و الاركان فالاختزال و قلة الوصف يعزز تعدد القراءات و يبسط سرديتها و هذا ما لا يرغبه و يطالب به عديد الكتاب و هو ما سبق و ان حكم بضرورة الاختزال و التقليل من الوصف مع الحشو غير أن القصة بين ايدينا لا تحمل في طياتها الغازا و لا تشفير و هذا محسوب للقاصة كون التلغيز يضعف الرغبة في التحليل و يثبط العزائم..
٣- القفلة: جاءت كما اراد القاص فأفلح في جعل النهاية محاولة لفك النص و تبيان مكنوناته خاصة من خلال رصد العنوان و الذي يجب أن يكون بعيدا عن حيثيات القصة و يكاد يدنو منها و هذا ما جعلها قوية لتبقى بذلك قفلة جميلة.
٤- الرمزية: نص طغت على احداثه الرمزية والإيحاء،
مثال لبعض الرموز:
*أثقل الإملاق خطاه: دلالة على الفقر و الجوع و العوز إلخ…
- جَلسَ القُرفصَاءَ تدُورُ عيناهُ في دهاليزِ القماماتِ علّها تَنْعَمُ بعظْمةٍ عافَتْها قططُ المُنْعَمينَ أو كِسرةٍ أنِفَتها كلابُ المُتْرَفين: دلالة على الحاجة الماسة للأكل و الطعام كذلك الرمزية في تشبيه الشخصيات الثانوية بالحيوانات الأليفة و المنزلية.
- تستغيثُ ضلوعُهُ البارِزَةُ: دلالة على الضعف و الجسم الهزيل و ربما شيخوخة و ارذل العمر.
- يَمُرُّ مَوْكبُ ابْنِهِ: دلالة على التخلي أو الفقد…
٥- السرد واللغة والتكثيف: سرد موفق لأحداث القصة، نص يتسم بالحشو و التكثيف، كذلك بقوة المفردات (الإملاق، القرفصاء، أنفتها…الخ)و كذلك جمالية الوصف.
- لغة سهلة نوعا ما، استخدمت القاصة الأفعال الماضية عموما.
- قدمت الكاتبة نصها بطريقة خاطفة، من الماضي الى الحاضر في محاولة منها لثتبيت فكرتها و صناعة قصة ذات بعد زماني و حسي و واقعي مع عدم وقوع القاصة في المحظور كتكرار الكلمات أو حروف العطف الزائدة و هذا ما جعل من النص ذو قوة و جمال.
٦- الشخصيات: هنالك شخصية رئيسية بارزة و هي التي تروم كسرة أو عظما…إلخ مع وجود شخصيات اخرى ثانوية دون إغفال الشخصية الأخرى و هي الإبن..
٧- الزمان والمكان: حصلت أحداث القصة في زمن الماضي، بدليل استخدام الكاتب للأفعال الماضية في سرده،
*المكان جد محدد بدليل تواجد بطل القصة في مكب النفايات و قد جاء جد صريح دون الترميز له او الايحاء.
و في الختام و من وجهة نظري أرى أن الكاتبة قد أفلحت في صياغة قصة قصيرة جدا متكاملة الاركان من العنوان الى النص الى القفلة و هذا ما جعل من سرديتها عرض حال بأتم معنى الكلمة و كيف صار الأب صعيفا نحيلا لأجل رقي إبنه و كيف لإبنه أن يتنكر لفضل ابيه عليه فالنص لم يغلب عليه التشفير و هذا ما يعيب القصة القصيرة جدا و يتعب تصور المتلقي و تحليله للنص و يجعل منه نصا دون معنى و هذا خطأ كون القاص يجب أن يكتب لغيره لا لنفسه.
التعليقات مغلقة.