قراءة نقدية للناقد علاء الجرزاوي من وجهة نظر إنثربولوجية أسطورية لقصيدة “طعنة الريح” للشاعر: محمد خير
قراءة نقدية للناقد علاء الجرزاوي من وجهة نظر إنثربولوجية أسطورية لقصيدة “طعنة الريح” للشاعر: محمد خير
قراءة نقدية من وجهة نظر إنثربولوجية أسطورية لقصيدة “طعنة الريح” للشاعر: محمد خير
قصيدة:طَعنـــةُ الـــريح للشاعر محمد خير
قَـلْبٌ عَلَىٰ جُرُفٍ والنَّبْـضُ يَنْهـَارُ
يَطْــوِي تَوَجُّعـَــهُ والآه أنهـــــارُ
بَثَّ العذاب أثيـرًا في مَـرَابِعِهِمْ
وعادَ رَجْعُ الصدىٰ تَنْعاهُ أشعارُ
مِن طعنـةِ الـريحِ أغصانٌ مُلَقَّمَةٌ
لِلنـارِ تَنهشُـهـا لا تشبـــعُ النـــارُ
والنَّايُ ناحَ بثُقْبٍ نـازفٍ وجعـًا
نَوْحَ الغصونِ إذا ما اغْتِيلَ “آذارُ”
فَرْخانِ في عُشِّ أحلامٍ مُهَلْهَلَةٍ
والنسـْرُ مخلبُـهُ بـالمــوت دَوَّارُ
كم يستغيثانِ مِن جوعٍ ومن عطشٍ
لكنما المـوت في عينيهِ إصرارُ
فَـذَكَّـــراني بـأحــــلامٍ مُقـَـــيدةٍ
وقَيْـدُها الـبربـريُّ الطبـعِ ثرثـارُ
يشتدُّ حول أَكُفِّ الشمسِ يخنقُها
يختالُ في فمهِ الغُولِيِّ “سيجـارُ”
تَبَّتْ يَدَا الْقَيْدِ لَمَّا استعذبتْ وَجَعِي
وَتَبَّ مخلبُ نسرٍ صَـيْدُهُ عارُ
تَبَّتْ يَدَا الشوقِ لمَّا استعذبتْ ألَمِي
وَتَبَّ دمعٌ جرىٰ والجمرُ مَـوَّارُ
أشكو إلى الصمتِ آلامًـا تُذَبِّحُني
وَصنْوُ روحي استبدتْ منهُ أظفارُ
لم يَرْعَ وَجْدًا طَغَىٰ بالقلبِ مُذْ زمنٍ
وراحَ يُنْكِـرُهُ، وَالْـوَجْـدُ مِــدرارُ
لمْ يَرْعَنِي، والهوى لم يُبْقِ لي خَلَدًا
إلا وآثــَــرَهُ، والـدمــــعُ آثــــارُ
أهكذا حـقُّ قلبي منه يا زمني؟
متى رميت به، فالدهــرُ أســرارُ
إني ابتُليتُ بعشــقٍ ما له كَبِـدٌ
حتى تَـرِقَّ، كـأنَّ العشـقَ أَكْـدارُ
يــا ليتَهُ يصطلي في ما أُكـابِدُهُ
لِيَعْـلَمَ الصـنوُ أنَّ العشـقَ أقــدارُ
القراءة النقدية للأستاذ علاء الجرزاوي من وجهة نظر إنثربولوجية أسطورية لقصيدة “طعنة الريح” للشاعر: محمد خير.
اللاوعي الجمعي في القصيدة:
يعيش الشباب المصري خاصة، وجل الشباب العربي حالة اغتراب جماعية، حيث يشهد صراعًا محتدمًا بين التراث والحداثة، بين الفقر ومغريات الحياة ومتطلباتها، بين الأخلاق والانحلال، بين الإيمان والإلحاد، بين الفطرة السليمة والتخلي عنها؛ مما أفقد الشباب التوازن النفسي، والانسجام العاطفي، وفي هذه القصيدة يحاول الشاعر التماهي بين ما هو واقعي وبين ما هو أسطوري محاولًا التطرق بطريقة نفسية غير مباشرة إلى هموم الشباب النفسية والدينية والسياسية والاجتماعية في الواقع والأسطورة بشكل غير واعٍ في نص شعري متفرد يصنف – على الأقل بالنسبة لي- من أقوي النصوص في الألفية الجديدة.
القصيدة وأسطورة كيوبيد اليونانية.
القصيدة بدأت من عنوانها العنفواني الدال على أحداث قوية مزلزلة تشبه أحداث أسطورة (كيوبيد) ، إنه رغم غياب الفعل والتعويض عنه بالاسم، والفاعل هنا جاء مضافًا إليه متأخرًا؛ ذلك ليجيب السائل الحيران ولكنها إجابة صادمة زادت الأمر حيرة؛ إذ أنا الفاعل بدا لنا أنه قوة من قوى الطبيعة (طعنة الريح)، لكنها قوة معلومة معروفة، لم تخَف إذ تطعن، إنها استعارة مكنية وضحت لنا البأس الشديد للطعن في العلن، يا لصعوبة المجاهرة بالسوء التي تشبه مجاهرة (أفروديت) لإيذاء (بسيش) .
هكذا كان (إيروس) ابن أفروديت يرمي السهام على الناس لكن من أجل أن يجعلهم يذوقوا الحب، لكن طعن إيروس (كيوبيد) كان طاهرًا، وطعنة الريح لا نعرف حتى الآن ماهيتها، لكن المشترك هنا أن الشباب كالريح عنفواني مشتت.
بدأت القصيدة بنكرة (قلب) وهو ما يضع القارئ في مشكل سردي أرقه؛ فالشاعر هنا ظهر جليًّا أن سرديته الشعرية لها عدة شخوص، وربما كان قلبه، وذاك موكول إلى القادم لنستبين منه ونعرف.
عدة شخوص كحال الأسطورة، فقد كان للملك ثلاث فتيات، كانت (بسيش) أجملهن بمراحل، فافتتن بها الناس حتى فضلوها على إلهة الجمال (أفروديت).
هنا أقف موقف المنتظر لحالة قلب لا ندري لمن هو، لكن الشاعر يباغتنا أنه (على جرف) ويكأن الشاعر ها هنا لا يهمه لمن القلب على قدر حالة هذا القلب الخطيرة، يا ألله! لقد جرنا (مُحمد خَيْر) عبر التناص القرآني المحكم إلى التماهي مع حالة القلب، واستعطف قلوبنا إليه، ثم عبر تقنية تداعي الألفاظ القوية يأخذنا إلى النتائج المترتبة على وصفه ” والنبض ينهار” وهو هنا طبيب نفسي يعلم ما يترتب على قلب توجع، وهو ليس كأي مضغة؛ إنه الأهم، والنتيجة جاءت بسرعة حيث التقط جهاز الشاعر الدقيق مستوى النبض الآخذ في الانحدار، وعبر بذلك برسم بياني لفظي جزيل وواصف بدقة، والواضح أن القلب في حالة ألمه تلك غاضب لا يود إظهار وجعه فيخفيه، رغم أن صوت الألم مدرارٌ “يَطْوِي تَوَجُّعَهُ والآه أنهارُ”
ويا لجمال التشخيص ووجعه في آنٍ واحد “بث العذاب أثيرًا في مرابعهم”
وقد عبر لنا عن سيطرة العذاب على الإعلام المسموع وسطوته بالمجاز المرسل” أثيرًا”، كما سيطر على (أفروديت) عندما تلاحظ انصراف الناس عنها لينبهروا بجمال فتاة أخرى.
لقد قلَّ بسبب (بسيش ) ذِكر ألهة الحب والجمال، فتم ترك معابد العبادة، ونحتت التماثيل لجميلة الجميلات، وبين الجمال والغيرة والحسد تجتمع الإيجابية مع السلبية، وتتضح التناقضات فيعيش الشباب فترات صعبة بين السلطة والرغبة.
يبدو أن الشاعر نجح بامتياز في استدراجنا لنعيش أجواء هذه المأساة النفسية لدرجة أنه حتى عندما أراد أن يلقى على أسماعنا لفظة إيجابية ونظرة بيضاء “مرابِعِهِم” الكلمة دالة على أجمل فصول العام حيث الاخضرار المريح، والنسيم النادي، والطعام الطيب؛ قد استخدمها الشاعر في بيئة سوداوية حيث كانت الأرض الربيعية وجهة البث المباشر، وقد آلت الأرض إلى الخراب وصارت أطلالًا خاوية، وهذا ما وضحه الشاعر عبر تقنية اللامباشرة العلمية، فصدى الصوت يعود في الأماكن الفارغة.
وانعكاس الصوت يرتد إذا لم يستطع العبور عبر سطح ما، وعليه يكون المكان الموصوف هنا بناءً بجدارٍ كان عامرًا، الشاعر هنا بقصيدته تلك ينعيه
“وعاد رجع الصدى تنعاه أشعار”
إنها لعنة جمال (بسيش) الذي ربما يُنعى.
ولكن يُنعى فقد طلبت أفروديت من ابنها كيوبيد أن يخلصها من تلك الفاتنة، وذلك عبر إيقاعها في شباك حبه.
استمرار التناقض بين الحب والحسد
وهو الذي دفع (مُحمد خَير) إلى إلقاء كلمات إيجابية ليضعها في سياق صعب موجع، حتى إذا لاحت لنا لفظة نستند عليها في منهجية القصيدة المائلة للسوداوية؛ نكتشف أنها خدعة منه، ظهر ذلك جليًّا واضحًا مع كلمة “أغصان” التي توحي لنا بالظل والثمر، لكنها “مِن طعنةِ الريحِ أغصانٌ ملقمةٌ”
نفس خطة أفروديت اللعينة : توقعها في الحب حتى تتخلص منها.
من التوصيف النفسي الدقيق هنا بدأ يتسلل إلينا الشك، فلو صارت الأغصان أداة للتلقيم فإن ذلك يوحي بأجواء المجاعة، وليتها حتى كذلك إنما
“للنارِ تَنهشُها، لا تَشبعُ النارُ”
يا ألله على الوحشة والدمار مع التناص القرآني اللامباشر:( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).
وانظر أيضًا إلى الترتيب (طعنة- ملقمة) وهو ترتيب تاريخي متقن، فالطعن كان للتلقيم أسبق تاريخًا وهنا شعرًا.
وهذا ما تم التخطيط له من أفروديت للتخلص من تعلق الناس ب (بسيش) فكما سبق الطعن التلقيم، فإن (أفروديت) تود أن يسبق الحب هلاك (بسيش)
عندما هَمَّ (كيوبيد) بفعل وصاية أمه تراجع في اللحظة الأخيرة، إنه بعدما رأى (بسيش) ضعُفت همته، فلم يرد لها أن تقع في حب مخلوق بشع مثله.
إنها ثمة الأبناء، إنه التردد، ديدن الشباب، لقد أثار الأمر شجون الفتى.
وبأسلوب التقديم والتأخير لجذب الانتباه يعبر الشاعر عن الأشجان بأعظم آلة موسيقية تعبر عن خلجات الروح
“والنايُ ناحَ بثقبٍ نازفٍ وجعًا”،
وقد بكى الناي وأصدر عويلًا موجعًا، وعزف رغم أن ثقبًا ينزف، وللنايِ ستة أثقب في الأمام، وواحد في الخلف يتحكم به العازف بإبهامه؛ ونزيف أحد ثقوبه يعد بالتأكيد نشازًا.
النايُ عند ( مُحمد خَير)، والسهم عند (كيوبيد) مجاراة عجيبة؛ فالناي يؤلم النفس، والسهم يؤلم القلب، وتيمة الحب في كلاهما حاضرة، إن ( مُحمد خَير) يكمل لنا الأسطورة، فبعد إطلاق السهم يحدث الألم، وبعدها لا بد من ناي يعزف على أوتار المعاناة.
ونوحُهُ هنا “نَوْحُ الغصونِ إذا ما اغْتِيلَ آذارُ”
يستمر الشاعر في الإتقان من حيث اختيار كلمات بعناية فائقة لها مدلولها النفسي ورمزيتها الجمعية ولعل “آذار” – الشهر الثالث السادس في التقويم السرياني، ويقابله شهر مارس في التقويم الميلادي- يعتبر خير دليل، ففي أواخر ثلثه الأول يوم المرأة، وأول ثلثه الأخير عيد الأم وبداية الربيع، وهي أجواء لا شك أنها سعيدة، واغتيالها للروح مهلك، وللنفس مضني وصعب.
لكن (أفروديت) لا يهمها هلاك نفس بريئة لم تقترف إثمًا، ولم ترتكب جريرة، الأمر كله فقط لأنها جميلة، والجمال في الشباب مرتبط.
هكذا الشباب محارب في واقع (مُحمد خَير) وأسطورة (كيوبيد).
حالة من الضعف الإنساني، وضع نفسي مأساوي أدى إلى تصوير الشاعر لنفسه وللرفيقة بِـ
“فَرْخَانِ في عُشِّ أحلامٍ مهلهلةٍ”
إنها طموحات شبابية بسيطة، عبارة عن مأوى وزوجةوزاد، والحب يجمعهما، ليس إلا، لكن هيهات هيهات، إن الأمر متشابه في الحقيقة والأسطورة.
يظهر ذلك في حالة من الضعف الإلهي التي انتابت (كيوبيد)، لكن (بسيش) كانت حزينة إذ لم يقع في حبها أحد، وهي مثلنا تود لو تعيش قصة حب أسطورية.
تود عش الأحلام الآمِن.
لكن مخالب (أفروديت) تأبى السلام، كمخالب الواقع القاسي الآن.
ويا ليت المصيبة وصلت إلى هذا الحد فقط، بل تخطته إلى المأوى، إلى العش، وسوداوية المستقبل، إذ أن الخطر المحدق وصل إلى الديار؛ التي يفترض لها الأمن والأمان والاستقرار:
“والنسر ُمخلبُهُ بالموتِ دوَّارُ”
يا ألله للظروف القاسية، فمع الهشاشة والموت المخيم بالمكان فإن الميتة لن تكون هينة، شتان الفرق بين الموت على الفراش وسط الأهل والرفقاء وبين الموت وسط المترصد للخائفين الجائعين العطشى، إنه الموت بقهر وحرمان وبهيمية
“كم يستغيثانِ مِن جوعٍ ومن عطشٍ”
لكنما الموتُ في عينيه ِإصرارُ”
إصرار كإصرار (أفروديت) على اغتيال جمال (بسيش) الرائق.
وبالتبعية فالتمسك بالأمل للنفس مطلوب، والسعي للمجد واجب ، لذا عندما شعر والدها بالإحباط أرسلها إلى كاهن، الذي بدوره أخبر والدها أن تلك الجميلة مقدر لها الزواج بمخلوق غريب مجنح ليس ببشريٍّ، وأوصاه بتركها على عنان جبل، فجاءت الرياح فحملتها إلى قصر بعيد، يتم خدمتها بخدم لا تستطيع رؤيتهم، وكان زوجها كذلك متخفيًا متواريًا عنها، لم تلمح منه طيفًا.
إنه سياق صعب، إنها تعيش أجواء ضبابية، كما يحياه شباب اليوم، الأمور غير واضحة، والقلق من القادم قاتم كالليل البهيم.
في هذه الأجواء نتساءل: كيف ستكون نوستالجية مُحمد خَير؟!
الإجابة معروفة مسبقًا؛ إذ أن هذه السياقات شديدة البأس لن تذكره بجنةٍ وارفةِ الظلال، بل على النقيض تمامًا، إنما ذَكَّرته بأحلامٍ قيدُها همجيُّ متفيقهٌ في تكلف وتصنع وإرغام.
“فذَكَّرَاني بأحلامٍ مقيدةٍ
وَقَيْدُها البربريُّ الطبعِ ثرثارُ”
إنها لفتة تربوية شديدة الدقة؛ إذ أن الطبع غلاب، ومَن ديدنهُ التدني لن يرجى منه إنجاز.
يا لك من صياد ماهر؛ إذ أن البربرية لديه مكتسبة، يبدو أن للبيئة دورها، وللنشأة النفسية آثارها.
فكيف لبشريةٍ أن تحيا حياةً طبيعيةً مع المجهول دون آلياتِ التوازن وسهولة الاستقطاب؟
ولأن البربرية طبعُهُ؛ فلم يكتفِ بالعش (رمز لما هو مادي)، بل طالت يداه الآثمة الطبيعة؛ فَضَيَّقَ الأمرَ من كل صوبٍ
“يشتدُّ حَوْلَ أَكُفِّ الشمسِ يَخْنقُها”
إنه أداة تخريب مدمرة، ورغم ما يحدث حوله فها هي اللامبالاة تظهر عليه جلية، إن البئر تحته يجف، وهو باردٌ غير مكترث كأنه راضع ثلج.
“يَخْتالُ في فَمِهِ الغُوليِّ سِيجَارُ”
إنه شيطان يتبختر بقيد ونار ودخان، والأحق بالتبختر من بَنَى وعمرَ، لا من خنقَ وكدر.
إنه شيطان فيواقعِ ِ(مُحمد خَير)، وهو متخفٍّ في الأسطورة، وكلاهما يتسلل.
والنفس في تلك الظروف تأبى الصمت، إنها تستثير الحمية، فتعلن أن:
“تَبَّتْ يَدَا القَيْدِ لمَّا استعذبتْ وجعي
وَتَبَّ مخلبُ نسرٍ صَيْدُهُ عـارُ”
نعم، لقد خسرت هذه اليد التي رأت في الوجع سلوى، وفي ترويع الخائفين عزاء، والأولى التأمين من الخوف، والتطبيب من الجراح.
في الشطر الأول تناص قرآني مباشر (تَبَّتْ يَدَا أبي لهب)
والسطر الثاني تناص قرآني غير مباشر (وآمنهم من خوف)
كيف جمعت يا محمد خير بين الصريح والضمني في تناسق تام، واستدلال بديع؟!
أتتخذون من النسر شعارًا؟!
ثم تصطادونني به بدلًا من رعايتي؟! ثم تجدون تعذيبي سائغًا؟! إذن؛ لقد كفرت بنسركم، ولا يعود إيماني حتى تعودوا عن غيكم أيها المستبدون.
هلكت يد كنت أحبها، وعلى أهبة الاستعداد للذود عنها إذ رأت مرارة ألمي حلوة، والنقص والضياع لكل دمع سال في حين تهيج النار، وتشتد الخطوب، وتُستحكم العقدة؛ إذ أن في الصعاب لا بد من المقاومة الشريفة والصبر الدؤوب، هكذا تفعل النفوس السوية، فهل كانت نفس (بسيش) سوية؟! أم أن واقعها هش، وحياتها منفية؟
إن القادم سيحدد مدى استقطاب الضحية، وسهولة استدراجها؛ لقد ذهبتا أختا بسيش إليها ذات يوم لزيارتها، فوجدوا عندها ما لم يرين من قبل، في الركن أسرَّة، وفي الأرجاء كنوز وذهب وياقوت؛ فتسلل الحسد إلى قلوبهم.
كما بلادنا مليئة بخيرات الأرض، لكن خيرها لغيرها.
انظر-حياك الله إلى الدقة في استخدام صيغة المبالغة مَــوَّارُ) فأثارت المشاعر، وقوت المعنى، وأكدت الدلالة، ووضحت الاستعداد النفسي للمجابهة تحت أي ظرف، وفي أي سياق.
“تَبَّتْ يَدَا الشَّوْقِ لمَّ اسْتَعذَبَتْ ألمي
وتبَّ دمعٌ جَرَىٰ والجمرُ مَوَّارُ”
الإطناب في “استعذبت وجعي”
“استعذبت ألمي”
أكد آلام النفس، وقوى إحساسنا بحالة الشاعر وما يمر به من مكاره، هنا ظهرت فائدته بجلاء.
ما أحوج النفس الإنسانية في الأزمات إلى البوح والشكوى!
(بسيش) ستبوح لأختيها، لمن يبوح إذن (محمد خير)؟!
لكن لمن البث والآخَر يكتم أنفاسك، ويجثم على صدرك؟!
تعالوا بنا لنرى لمن الشكوى!
“أشكو إلى الصمت آلامًا تُذَبِّحُني
وصِنْوُ روحي استبدتْ منه أظفارُ”
إن شكوى (بسيش) ستجلب لها المرارة أيضًا، إن الشباب يقاسون الويلات واقعًا وأسطوريًا.
إن النفس الإنسانية لن تكف عن الفضول، فها هنا الأختان تسألان بشغف عن زوج أختهما وقد حذرها زوجها من التطرق للحديث عنه.
ما أقسى رفع الألم إلى نفس صامتة، وما أصعب إخبارها بالتوجع، وما دفعه لذلك سوى أنه لم يجد آذانًا صاغية لشكواه لتحنو عليه في مصابه، يشكو لصمته ذبحه، يا لهول ما تكابد نفسه!.
ويا للوجع المطبق إذا كانت طعنة الغدر من عزيز علينا استولت عليه وغلبته مخالب الشر.
لقد أجابنا أخيرًا محمد خير عن طعنة الريح، والريح بانت لنا أنه “صنو روحي”
إن النفس لتنهار عندما تكون الطعنة من مُكَرَّم، له مكانة وتقدير.
هكذا نفس (كيوبيد) ستتألم عندما تخون العهد؛ إذ يرى أنه على صواب، وتلك معضلة العصر، كل فريق مؤمن بما يقول، كافر بما في جعبة أخيه، فلا حوار ولا متنفس.
إن لسانَ (كيوبيد) و (محمد خير) يقول:
” إن هذا الذي ملكناه وجداننا، لم يحفظ نفسنا من الألم، بل جحد ولم يعترف بالكُلوم، والجراحات غزيرة لا تَلْتام.”
“لم يرع وجدًا طغى بالقلب مذ زمنٍ
وراح يُنكِرهُ، والوجدُ مِدرارُ”
إن الحبيب لم يصن في المطلق، لم يحفظ أي شيء، لم يقل لنا محمد خير هنا لم يرع ماذا كما فعل مع سابقه، إذ بدأ بالتخصيص “لم يرع وجدًا” ثم أتبعه بالتعميم “لم يَرْعَني”
استخدام (محمد خير) تقنية الاستدراج لأن المُعَذَّب أدرى الناس بغيره، فبدأ بالجزء حتى تتهيأ النفس للصدمة، حتى إذا صرح بالأصعب تحملته النفس.
والأختان استخدمتا نفس الاستدراج بأدوات مختلفة.
إن الأختين مصرتان على كثرة السؤال، وفي ذلك مهلكة لو علمتا، فسألاها عن وصفه ومهنته وعن اسمه ورسمه وطباعه، فأجابتهما أن زوجها شاب جميل يعمل صيادًا.
ويستأنف الشاعر كاسف البال بسلاسة الهم الذي خصه، والوجع الذي صاحبه، والدمع الذي انسكب. وأسفه الذي اشتد.
والأختان أيضًا آسفتان أن أختهما لديها حياة كريمة ظاهريًا، إنهما لا تعرفان ما تخفي الندوب؛ والشباب يُخفى أكثر مما يظهر في جو من القهر والاستبداد، لكن في الأبواب المغلقة الأختان والشباب تحدثوا، وودوا لو كان المناخ جميلًا طبيعيًا.
” لم يَرْعَني، والهوى لم يُبْقِ لي خَلَدًا
إلا وآثَـــرَه، والدمـــــع آثــــارُ”
للواقع آثار كما الأسطورة.
أخذَ الأختان التسلسل إلى نفس أختهما فوسوستَا لها أن اقتليه وأقنعاها بذلك، فتم لهما ما أرادتا من تسليم أختهما لكيدهما.
يواصل (محمد خير) طريق التوتر، والاضطراب المزاجي الذي هو نتيجة طبيعية عما يمر به من حزن عميق ومتواصل، وخزي مستطير، وفقدان الاهتمام؛ فبدلًا من أن يحدثنا عن القلب ومآله، نجده يحدثنا عن عشق ليس به ” كبد”
هذا الاضطراب ذاقته (بسيش)
“إني ابتليت بعشقٍ ما له كَبِدٌ
حتى تَرِقَّ، كأن العشقَ أكدارُ”
يا ألله، كطبيبٍ عالم وماهر يصور لنا (محمد خير) العشق كإنسان بلا كبد، وهو أحد أهم الأعضاء التي تُبقي على قيد الحياة، إذ يقوم هذا العضو منفردًا بما يقارب الخمس آلاف وظيفة، هذا من ناحية جسدية وظيفية، لكن الأمر له دلالة نفسية؛ إذ أن وجود الكبد يجعل الإنسان أكثر قدرة على تحمل الضغوط والأعباء، فيساعدنا على التجلد والصبر ،وهو الذي يحمل معاني قوة الوصل، وتُحرك للقلب جأشه، وتعينه على الثبات.
وكأن خلو العشق من طرفه الآخر، كخلو الإنسان من الكبد، فتصير الحياة مستحيلة.
وهو أروع ما قيل في الحب من طرف واحد.
يستمر العامل النفسي يسيطر على الشاعر، ودون مزايدات أو فانتازيا يعبر لنا عن شبه استحالة نجاح العلاقة؛ حيث استخدم حرف التمني “ليت” لإيصال شعوره بفقدان الأمل في تحقيق صحية العلاقة النفسية، وقد حرص (محمد خير) على عدم منح الطرف الآخر لقب الحبيب استكثارًا، استخدم بدلًا منها “صنو” على سبيل (لا تؤتمن النفس على من خذلها مرة).
سيلوح في الأفق أيضًا استحالة الحياة عند (بسيش) .
لقد استجابت بسيش لأختيها، فحملت بيدها خنجرًا واتجهت صوب زوجها لتكتشف أنه كيوبيد الذي اختفى جراء مخالفة الاتفاق الذي تم بينهما ورحل للأبد.
إنها الرسالة الأخيرة : عشقتك قدرًا، ولو كان قدرك عشقي لذقت مما أركب هوله ، ولعانيت مما أقاسي صعوبته.
“يا ليته يصطلي في ما أكابدهُ
ليعلم الصنو أن العشق أقدار”
عانينا كما عانت (بسيش) و (كيوبيد) و (أفروديت) والأختان، والأب المكلوم على ابنته؛ كل عانى بقدر تكوينه النفسي العاطفي، والتجارب الذاتية بانعكاساتها الجماعية عبر الأجيال لكنها تحدث بطريقة غير واعية، كما حدث في هذا النص.
وقد عانت بعده (بسيش) فأصيبت بلعنة النوم الأبدي من قبل إلهة العالم السفلى، بأمر من أفروديت، لكن كيوبيد أيقظها وأنقذها وأبعد عنها شرور أفروديت.
لقد ركزت الأسطورة على نهاية سعيدة لشخصين، والأعمال بخواتيمها، فهل ستكون خاتمة جيلنا في الواقع كخاتمة الأسطورة؟!
التعليقات مغلقة.