قصة الحياة في إبتكارات الفنانة منى علي
دراسة نقدية لنيفين الرفاعي
الجزء الأول
يحضرنا دوما تساؤلات تأملية على شاكلة : ما الذي كان هناك قبل الوجود والعدم ؟ .. أو ماهو السر الأعظم في لغز الحياة الأساسي ؟.. و كيف للإستبصارات الحسية أن تكتشف طاقات الوجود في المحسوسات؟.. ، و في حقيقة الأمر يحمل هذا التأمل والإهتمام بالعالم الخارجي نوعاً من التعبد والزهد عن الأشياء إلى ما هو خير منها ، ويزيل الأتربة عن تداخل سيال للوعي البشري مع الطبيعة في ظل ثقل عقلانية زمن جفاف الآلة ، في وحدة بهيجة بروحية متيقظة تتمتع بالبراءة والبكارة بلا حدود .
تمرق تلك الخواطر الأبدية في ذهنك عند رؤيتك لأعمال الفنانة ” منى علي ” للوهلة الأولى ، حيث يحتل مجال رؤية عينيك تكدس العناصر في التكوين ، و يومض في عقلك ضجيج زخم التفاصيل ، و يكتسب وجدانك نوعاً من الرجفة لشعورك بحالة من الوله تجاه الطبيعة الأم وما تحمله من أسرار الكون ، وكأنها تحاول البوح بالجوانب المعرفية والتعبيرية الصادرة عن طريق الحواس ، فالطبيعة أهم مصدر للخامات (غير المصنعة على وجه الخصوص ) ، وهي مخزن لكم هائل من المواد المتنوعة من جماد ونبات وحيوانات ، منطوية على ثراء عريض من الصور الكامنة فيها قبل أن تحمل صورة بعينها، والتي تترجمها طاقة الرؤية الفنية الإبداعية الخاصة بالفنانة كقوة مسيطرة فاعلة وتصلها إلى المتذوق بالتعدد التقني و التطويع التجريبي للخامات المختلفة ، متخذة منهج البحث في المواد التي تحقق أفكارها اللاهثة بتشكيل مادي ؛ فتعاملت مع الخامات الطبيعية البكر متخذة إياها وسيلة من وسائل التعبير مدركة مدى الإستفادة منها عملياً ، وكيفية تحويلها لشيء له قيمة ووظيفة.
“علي ” طاقة إبداعية محمومة سريعة الخطى في دروب الحياة المتشعبة ، كرست الكثير من جهودها في مناح إنسانية وإجتماعية عديدة ، يحتل فيها الفن الكيان الأعظم ، والذي وضعت خطواتها العريضة الواثقة بداخل حقله في الغالب منذ بداية الألفية الثالثة .. تبحث عن شيءٍ لا تحدد معالمه ، وترنو للحاق بمطلق مثالي غامض يشعرها بالرضا.. لها عينا طفل بتلك الحيرة و ذاك الشغف في إحساس التبحر داخل المحسوس والمتعين والذي يراه للمرة الأولى ، يثقل ضميرها إحساس بأنها متأخرة عن كُنه ما ، و كأن أمامها الكثير تريد اللحاق به كي تكتشف بواطن كل ما تقع عليه عيناها في محيطها ، وتستبصر الكامن فيها من جمال ، ذلك لترضى لوهلة من الزمن .. ثم تعود لإحياء إرهاصات توصلت إليها وتجعل منها إحتمالات جمالية لتجربة جديدة .. تشعر دوماً بأزمة المعادلة المعضلة في حياتها ؛ حيث مساحة الزمن الضيقة على تدفق سيل أفكارها الفنية ، منذ أن بدأت تلك الأخيرة في الخلاص من وجدانها ، بعد مضي حقبة طويلة من الزمن نسبياً مكث وترعرع فيها مجال دراسي لم تستهويه نفسها ولم تتخيل فناء عمرها وعطائها فيه ، فسعت لتغيير قصة حياتها بإرادة الإبداع ، وخرج ماردها من قمقمه لتبزغ الأقدار الحتمية وتطفو للسطح بإظهار مثير جمالياً.
كثر إنتاج “علي ” ، و تنقلت من حقل من حقول التقنية لآخر ، مع نبذ مبدأ التخصص الشُعبي ؛ فاتجهت للألوان بأنواعها في التصوير على الأسطح المختلفة ، لتكون لها أعمال بخامة الألوان الزيتية ،الأكريليك ، الباستيل و الأحبار أو الأصباغ ، وتتحول إلى التعبير بالكولاج واستخدام الملصق من الخامات ، ثم الموزاييك والمونة الملونة ، والزجاج الملون والأزملت و أخيراً الخشب والنحاس .. و في أحيانِ تتجه إرادتها الإبداعية نحو المنحوتات والمجسمات ، في ضرب من التجريب يمتاز بالجَدة في طَرق جريء لتطويع ما يتوفر من الخامات ، لتؤثر التعبير عن القِدم في تفضيلاتها الجمالية ، فيغرد فؤادها عند تلمسه في أعمالها ..وتصبح لها ممارسة تمتاز ببراعة الإستهلال في أعمالها باختيار موفق للمسطحات والتي تستقبل إحساسها بالشجن ، وتتخذ بحسم قرار التوقف عن الدفق الوجداني لترك براح بوّاح بما لم تبح ، له ملمح شجن واعِ وأثر باقِ.
من خلال دراستها هضمت “علي ” خصائص الخامات و المواد المتنوعة وأخضعتها لسيطرتها بعد إستيعابها لإمكانياتها ، وصاحب عملياتها الإبداعية تفكير يرتبط دوماً بطبيعة المواد ، سواء كانت حجراً أو زجاجاً أو خشباً ، واستطاعت بفلسفتها الخاصة أن تحدث علاقة وفاق وتعاون مثمر مع الطبيعة ، وكلما تعمقت في معرفتها بالخامة ، توسعت أفكارها التخيلية وتكامل معها العمل الإبداعي أثناء تنفيذه.
في بداية رحلتها مع الفن كانت تصور الطبيعة بطريقة أكاديمية متمعنة في أعمالها التي استخدمت فيها الفرشاة ، و صورت فيها العديد من الدراسات المتأنية للشجر والعناصر النباتية مع بعض المسطحات المائية والسماء وربما مع بعض النماذج البشرية ،
التعليقات مغلقة.