قصة ” عيدية “للأديب العراقي نبراس سالم … برنامج ما وراء القصة : كنانة عيسى و محمد كمال سالم و ريهان القمري
قصة ” عيدية “للأديب العراقي نبراس سالم … برنامج ما وراء القصة : كنانة عيسى و محمد كمال سالم و ريهان القمري
نص القصة :
عيدية بقلم نبراس سالم
تأخرتُ كثيرا، طلبات العملاء اليومية تضاعفت ثلاث مرات هذا اليوم، غداً العيد، الجميع يتصلون لتعجيل الحصول على احتياجاتهم قبله، لا يكون العيد عيدا إلا بحلويات (النهرخوز) وسِلال تمر البرحي الرطب والمعسل ومدگوگة التمر الزاهدي من صنع معملنا، هدايا بين (المُعيدين) أو لتوزيعها في المجالس والأفراح، لا يكتفون بكليجة التمر والجوز، منتجاتنا تَخطتْ حدود البصرة حتى بغداد.
ضغط العمل شديد، العمال كلهم غادروا عند السحور، جهزوا لي مواد العمل، وطلبوا الإذن بالانصراف، يسكنون بعيدا في النواحي النائية من البصرة، أو في المحافظات المجاورة، ليس استغلالاً ولا بطيبة قلب زائدة، المدير يعتمد عليّ، ولا أقدر على خذلانه، خصوصاً الليلة.
كيلوغرام واحد من النهرخوز وآخر من كليجة التمر من صاحب العمل، عوضا عن التأخير، لا تشفعان لدى العائلة، دقائق ويحين موعد الإفطار، كيف سأصل للبيت، الشوارع في هذا الوقت لا حس ولا نفس (تصوصي)، ليس هناك أحد يقلني للبيت، والمسافة بعيدة.
“أور” يعشق حلاوة النهرخوز، يأكلها مع الخبز الأسمر كوجبة كاملة، لا يمّلُ منها، لكنها غالية قليلا، يصعبُ عليَّ شراؤها باستمرار، حبيبي يُقّدرُ وضعي المادي، ولا يحرجني بطلبها.
“أتاليا” تفضل كليجة التمر، مع أن كليجة نينوا لا تقارن بأي كليجة أخرى، تأخذ الصحن الخاص بها، وتتسامر مع صديقاتها بنات الجيران ليلة العيد مع شاي أبي الهيل، لا تقبل أمها أن تتأخر عند الجيران، تخاف عليها من الشارع وما به من مخاطر، نسيتْ أن كل أهل البصرة عائلة واحدة.
الشوارع تخلو من المارة، رائحة القلي تزكي الأنوف، أعشق الطماطم وهي تقبع في قعر المقلاة مطهية بزيادة، مع عروق (الطاوة) كفطور، أو ثريد الباقلاء مع البصل ودهن الحر بوجه الصحن، لا أبدله حتى بكباب السوق وباچته باهظة الثمن.
لا أعلم كيف كانت حياتي قبلهم، أو بعدهم، “أور” يفتح الباب لي بيد، وقدح لبن أربيل المُدخّنْ البارد بيده الثانية، “أتاليا” تقف في باب الاستقبال تحمل لي خُفّي نعليّ ودشداشة (الزبدة)، أسمع صرخات “نينوا” من المطبخ طلبا للمساعدة، تتذمر من عدم مساعدة الصغار لها.
حتى بعد اندلاع الحرب، واستمرار القصف المدفعي على بيوتنا، لم يكّفوا عن طقوس الفطور في شهر الصيام، خوفها يتزايد، خصوصا بعد إصابة صديقتها وجارتها “سميراميس” وأطفالها، كادوا يفقدون حياتهم بسبب قذيفة مدفع سقطت على منزلهم المجاور لمنزلنا، لكنهم لا ينفكون ينتظرونني عند الباب رغم تحذيرها المستمر لهم.
الوقت يمضي وسيفوتني إفطار الليلة الأخيرة من الصيام، ليلة العيد، سيغضبون عليّ لأني تأخرت عن الغناء معهم، نردد مع فرقة الإنشاد (يا إله الكون إنا لك صمنا …..)، ونحن نأكل تمرة ورشفة من عصير النومي بصرة قبل الصلاة، كيف أتأخر عن موعد إعطائهم العيدية بعد الأذان؟ كيف سينامون وعيديتهم ليست تحت وسادة كل واحد منهم؟.
الحمد لله، سيارة أجرة توقفت، سألحق بهم، عسى أن يستطيع إيصالي إليهم في الوقت المناسب.
شكرا لوقوفك، لقد فقدت الأمل في (توصليه)، أرجوك بسرعة.
-إلى أين؟
-إلى المقابر.
د. نبراس سالم
التعليقات مغلقة.