قصة قصيرة. الحاجة شجرة الدر.بقلم سيد جعيتم
استطعمت صوت أسمهان وهي تشدو بكلمات بديع خيري:
ـ عليك صلاة الله وسلامه… شفاعة يا جد الحسنين دا محملك رجعت أيامه… هنية وتملت به العين.
أخذتني نشوة روحية وحلقت عاليًا، ثقلت جفوني.
هبط في ميدان الرميلة أو ميدان الرماح، وسط الحشود أمام باب العزب بقلعة الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب، تفاجأت بالحشود الغفيرة التي يرتدي كل الحاضرين فيها الجلباب
أنا الأفندي الوحيد بينهم، حاولت لملمت أفكاري، سرعان ما لفتت ملابسي أنظار الجموع، التفوا حولي صاح أحدهم:
ـ جاسوس من الفرنجة.
أيقنت أني عدت في الزمن، ارتجفت هلعًا، صحت خائفًا:
ـ فرنجة إيه أنا مصري والله العظيم مصري، ورحت اتلو الشهادتين.
ـ ما تستغربوش من مظهري وهدومي.
من أقصى الميدان علت العفرة، صاح أحدهم:
ـ عسكر المماليك .
بشهامة أهل البلد تعمد الحرافيش تعطيل الجند، وعندما وصلوا إلينا كانوا قد أبدلوا ثيابي العصرية بجلباب ووضعوا طاقية على رأس، ذبت بين الجموع.
مشدوهًا أنظر لباب العزب بالقلعة، فهو تحفة معمارية، يتوسط برجان كبيران لهما واجهة مستديرة أعلى كل منهما غرفة، وبينهما سقاطة تستخدم لإلقاء الزيوت المغلية على من تسول له نفسه اقتحام البوابة، أخذت أقارن بين القلعة وبين ما صارت إليه في القرن الواحد والعشرين.
سألت من بجانبي عن سبب التجمع، نظر إلي مستغربًا وقال:
ـ ننتظر عطايا الملك الصالح بمناسبة خروج زوجته عصمة الدين أم خليل للحج.
أدركت أني عدت لعهد الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب سابع سلاطين بني أيوب بمصر وزوج شجرة الدر، ووجودي في هذا التوقيت يعني أنه قد مضى على بناء القلعة حوالي سبعين عاما وأنني في عام (٦٤٥ ه/ ١٢٤٧ م) العام الذي ذكرت المراجع أن شجرة الدر حجت فيه لبيت الله الحرام.
ملأتني السعادة فسأشاهد جمال الرومية أو الخوارزمية الذي سلبت الملك لبه فأعتقها وتزوجها.
زاد ازدحام الميدان حتى أنه لم يعد هناك مكانا لقدم.
نزل الفرسان للساحة وتباروا باللعب بالرماح والسيوف، ونصب الحرافيش حلقات للمصارعة بينهم، واستحوذ الحواة والسحرة على أعداد غفيرة من الناس، بينما اتجه البعض لحلقات الذكر بالمناطق المجاورة.
صوت البوق يعلن عن بدء تحرك الموكب رفعت عيني تجاه باب القلعة، وجدت الأسوار قد ازدانت بالأعلام الملونة وبجوار كل علم جندي بثياب الحرب يمسك حربة طويلة يعكس نصلها اللامع ضوء شمس الصباح.
فُتح باب العزب (يطلق عليه الأهالي باب الإسطبل)، ظهر فرسان المماليك براياتهم يتقدمهم رؤساؤهم الأمير عز الدين أيبك والأمير فخر الدين أقطاي وخلفهم سيف الدين قطز ومجموعة من القادة، ثم تلاهم خروج قضاة المذاهب الأربعة، وممثل الخليفة العباسي.
صدح البوق بالسلام السلطاني، ظهر الملك الصالح نجم الدين، يمتطي فرسه الأشهب كامل البياض، مغطى بالحرير الأخضر، فوقه سرج مطعم بالذهب يحمل في يده صولجانه المصنوع من الذهب يحيط به حراسه بزيهم الأسود المميز ودروعهم الثقيلة، يمتطون أحصنة سروجها مطعمة بالنحاس البراق.
وأخيرا ظهر الهودج الحريري الأخضر لشجرة الدر فوق جمل مزركش بأبهى الألوان وخلفه هوادج الوصيفات وزوجات الأمراء المصاحبين لها في رحلة الحج، وخلفهم يسير أمير الحج ركن الدين بيبرس البندقداري، وخلفه الفرسان المعينون لحراسة الموكب.
امتلأ الميدان برائحة البخور الذكية التي يحملها حاملو المباخر، وبدأ عمال المحتسب في توزيع العطايا على العامة وكان نصيبي درهمًا فضيّا من الدراهم التي صكت باسم الملك الصالح نجم الدين أيوب.
شاركت العامة بالدعاء للملك الصالح وزوجته، وإن حرمني الهودج من رؤية شجرة الدر التي تغنوا بجمالها وحسنها.
أيقظني صوت المنبه، لكني ما زلت أعيش مع حلمي.
جلست علي مكتبي وكتبت:
ـ افتتح موكب شجرة الدر درب الحج المصري الجديد عبر سيناء ليصبح طريق الحج الرئيسي للحجاج المصريين وحجاج المغرب العربي بعد أن كان درب الحج القديم عن طريق قوص/ عيذاب علي ساحل البحر الأحمر في مثلث حلايب، حيث كان يخرج الحجاج من القاهرة قبل شهر رمضان ويقطعون ٦٤٠ كم
ليصلوا لمدينة قوص بمحافظة قنا بصعيد مصر ثم يقطعون ١٦٠ كيلو إلى عيذاب بمثلث حلايب أو القصير، وينتظرون المراكب التي تنقلهم عبر البحر الأحمر إلى جدة.
ـ أول من أطلق عليه لقب أمير الحج هو بيبرس البندقداري
لمصاحبته لشجرة الدر في رحلة حجها، وهو أيضًا أول من كسي الكعبة بالكسوة المصنوعة في مصر أيام سلطنته سنة ٦٦١ هجرية، ثم
أصبح للمحمل موكب من عشرين جملاً يخرج من القلعة وأثمن محتوياته كسوة الكعبة
وكسوة غرفة النبي صلى الله عليه وسلم ويتم صنيعهما
من عام ١٢٣٣ م في دار صناعة كسوة الكعبة بحي الخرنفش بقاهرة المعز لدين الله، (ما زالت هذه الدار موجودة حتى الآن)، وباقي صناديق المحمل تكون عامرة بالعملات الذهبية للتوزيع على أهل الحجاز بمعرفة أمير الصرة المصاحب للموكب).
ـ قام الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر بن قلاوون، بوقف ثلاث قرى بالكامل للإنفاق على الكسوة؛ كما قام السلطان العثماني سليمان بن سليم الأول بضم وقف ٧ قرى أخرى لنفس الغرض، سنة ٩٤٧ هجرياً.
ـ في عهد محمد على باشا توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لمدة ست سنوات، وأعيد إرسال الكسوة في ١٢٢٨ هجرية، واستمر إرسال الكسوة للحرم المكي والحرم المدني من مصر حتى عام 1961 م، بعد أن تم إنشاء دار لصناعة الكسوة بالمملكة العربية السعودية.
أدرت مؤشر الراديو فأتاني صوت أسمهان يصدح بلحن أخيها فريد الأطرش (عليك صلاة الله وسلامه… شفاعة يا جد الحسنين دا محملك رجعت أيامه… هنية وثملت به العين). أغلقت مذكراتي وأسفلها وجدت درهمًا فِضِّيًّا.
التعليقات مغلقة.