قصة قصيرة “الحرب والطحين “حميد محمد الهاشم بغداد
متثاقلا يجرّ قدميه… ينوء عموده الفقري تحت وطأة وغطرسة كيس… (جونية) من الطحين الاسمر والمندس بين ذراتة كثير من مهروس الخشب… قصة انحدار في مهروس الضمير… اسمرٌ في اسمر يحملها شابّ اسمر اللون… في الخامسة والعشرين.. حنطي اللون كعمق سلالة أجداده وليس كعمق ذلك الجريش القمحي الذي يعتلي منصة ظهره… ظهره المنحني…وحتى منصة ملامح وجهه.. وقلق عينيه .. كان اثنان قد طُرِدا قبله.. فشلا في حمل هذه اللحظات الثقيلة المتخمة بشبعٍ فارغ وبشع ممتليء… بخطىً متعبة يجرّ قدميه.. أكياس الطحين لا تقبل المزاح.. مثل أولئك الجالسين حول طاولة مستديرة.. نصف متر يباعد بين أحدهم والآخر… كبيرهم تنبت بعض الزغيبات القليلة متفرقة في ذلك المسطح الأبيض الذي يحتل ثلثي جمجمته.. كلوامس يرقات الخنفساء… أما شريكاه.. فلاحد هم نظارة سميكة دائرية تغطي عينيه والتي تبدو إحداهما عاطلة عن مساعدة اختها..( عوره).. أما الآخر فبين الفينةوالاخرى يغطي فمه المفتوح بظهر كفه عند تثاؤبه المكرر… نعاس برائحة الطحين… كسولا ويبدو عليه الجوع… الثلاثة بربطات عنق مختلفة اللون… لاتنقصهم دقَة مايروَن ولا خباثة النفس حين تقرر شيئا ما… مثل طرد ذلكما الرجلين حتى قبل أن يكملا الطريق مابين زحام الأكياس وزحام النظرات.. وخذلان العمود الفقري..
طُرِدا الاثنان.. وعلى الحمال الجديد أن لا يكون ثالثهم وهو يرى قسوة كل شيء في مسرح الحياة الكبير والمتبرعم منه شقائه الصغير هذا.. ستة عيون تراقب.. أوه.. أعني خمسة
بقع من الطحين تتناثر هنا.. وهناك فوق تلك البلاطات السوداء والببضاء.. حِمْلٌ مُتْعِب.. ومُتَعَب.. قوس فقرات تحته.. فشل يتكرر إثر فشل.. إلاّ إستثناء لهذا أو لذاك.. قرر حمالنا أن يكون هو الآخر إستثناء.. ينجح مع الكيس اللعين الأول والعين الثاني.. أعاد الجولة وعليه أن يهزم اللعين الآخر.. تعبٌ ينتظر.اوكسجين النجاح. ثيابه متهدلة وبأزرار مفتوحة فتظهر من تحت قميصه المرشوش بالطحين فانليته البيضاء الدِسمة.. بقع بيضاء خلفتها كونيته الأولى كجزرٍ تتبعثر على ظهره الرمادي.. بصمات مبللة كولادات تنضحها مسامات جلده مخترقة حاجزين من الثياب كبقع رطبةلترتسم على سطح قميصه الداكن كأشكال غيم مختلفة.
حسناً.. ارتفعت الجونية الثالثة
على كتفه.. انحنى محدودباً متلعثم الخطى.. ثمة ثقوب تعلو قمة الكيس اللايلوني لتندلق منها عيون من الدقيق الأبيض كشلالات صغيرة.. انحدرت من أسفل الرأس مارة على قوس الفقرات.. بعضها تسربت داخل بنطلونه.والبعض اكمل الطريق حتى كفة البنطلون الأخيرة.. وعليه إذن أن يكون اولايكون وتلك معظلته الان في هذا العالم الطحيني وعليه أن لا يُهَزَم أمام نعمة الله الأولى.. والجوع كائن متفتح الأفواه.. وهو لن ينسى ذلك.. وعليه أيضا أن يهزم الفرسان الثلاث.. رجل الزغيبات والاعوروالمتثائب.. ستة عيون وأنف واحد.. هو الآن يطارد رزقه.. فالطحين هو ضالته وأنتصاره وليس النساء
كما في قصة كاتبه المفضل.. هو الأنف الذي سيمّر أمامهم.. أنفاس النجاح تلهث.. .. يمرّ أمامهم كمسرح من اللامعقول ولكن لا أحد( في إنتظار غودو).. وعلى غودو أن يأتي.. عليه أن يأتي.. شاء أم أبى.. وعليه أن ينجح شاءت العصابة الثلاثية ام أبت
ماذا يفعل..؟!
قرر أن يبتكر.. لمَِ لا.. لِمَ لا.. التفت إليهم قائلا:
-ألم أُقل لكم أيها الحمالون الكسالى أن لا تقفوا في طريقي وانا أقود هذه الأكياس.. لِمَ لا تفسحوا لي الطريق أيها الرعاع..!! وقدائف كلمات تطايرت من فمه المليء بالزبدالابيض المصفر والمتجمد بعضه في زوايا ما بين الشفتين الذابلتين
تحملقت العيون عليه.. أفرجت الأفواه.. حتى بانت قواطع أسنانهم.. وعليه أن يذهب بعيدا في أبتكاره ولم يمهلهم حتى الردّ وسط ذهول واستغرب لا حد له… قام الحَمال الباسل برفس.. برفس الطاولة برجله.. وبكل قوته القى عليهم رشاش عبقريته.. جونية الطحين..!!
انقلب الفرسان الثلاثة على ظهورهم.. لم تبقَ شتيمة إلاّ وانقذفت.. وشتائم تلد شتائما أخرى.. نهض الثلاثة بتباطأ.. وهم ينفضون ثيابهم جراء الهزة الأرضية تلك.. أفواههم لم تنطبق من الشتائم بينما ايديهم تنظف ثيابهم من جنون الرجل.. الجنون الذي ألقي عليهم في غفلةمن………!!
الغبار سيد المكان والزمان..!!
الدهشة امتياز اللحظة بأمتياز!!
و.. حمالنا واقف مرفوع الراس..!!
وسط الغبرة البيضاء القمحيةوالتي تتشقق عن ضحكات أشبه بزغاريد خجولة لعرس فقير وعريس أكثر فقرا..!
ضحكات وتأوهات أولئك المتقدمين.. المتقدمين لنيل ذلك المشهد.
القهقهة تصل أذيالها لكن الدهشة ظلت ساخنة ولجنة الاختبار والاختيار لم يكتمل نهوضها بعد ولا فيض الشتائم قد توقف.
ثم.. يوم.
يومان.
أعلان..ثم.
ثلالة أسابيع.. كان حمالنا الحنطي اللون و الرؤى… النجم الاول في مسرحية الحرب والطحين.
………………………………………………
في أنتظار غودو/ صامؤيل بيكت
التعليقات مغلقة.