قصة قصيرة :الربابة الحجرية بقلم عصام الدين محمد أحمد
مشرف الجمعية الزراعية ينده ، في تلكؤ الغافين أنهض من رقدتي.
أنها التجربة الأولى، فلأدع التراخي علي جنب.
لكن ما الذي تريد أن تثبته؟
حتي لا يختل بك ميزان الكلام دعني أمضي.
بهدوء وحرص خرجت من الخندق الذي نبيت فيه منذ ثلاثة أيام، رشرشت وجهي بمياه الكوز الصدئ، لا يمنع هذا من ابتلاع بق أو بقين.
جرني المشرف خلفه، لا تُتعب ناظريك، فلم يربطني بحبل، أحيانا أبطّئ الخطو، وأخرى أسرع، ولكنني علي أية حال لا أحاذيه أو أسبقه، في كل خطوة فكرة، ومع كل فكرة شتات.
أنظر إلي البيوت؛ هادئة،ناعسة.
أطرق الأرض خلفه، صلدة؛ فهذا الشيء الموجع الذي يسمونه أسفلت يكسوها.
خلف أبواب الدور- المتفرقة علي جنبات الطريق- نفوس، وخلف النفوس وداعة.
أجربت الوداعة قبلا؟
لا تجب حتي لا تكذب،ولا تبحث عن المعنى في المعجم.
ألا تكفيك نارك الآن؟
أم لا بد أن تكون نارك نارين!
الرجل يقودني إلى….إلى ماذا؟
أإلى بستان؟
يا لهذه الرحمة التي حطت فجأة علي قلبه!
أإلى الجحيم؟
لم أقترف ما يستوجب العقاب.
ها أنا خلف الجمعية، الأرض أكثر صلابة.
دون كلمات – ومنذ متى تفيد الكلمات- أشار إلي خط مستقيم، طوله عشرة أمتار وإلي الفأس والحجاري والكريك.
أمسكت الحجاري، رفعته في الهواء،هويت به علي القاع.
كررت الفعل مرات ومرات.
بطن يدي اليمنى سخنت، أتفل عليها، لعلها تبرد!
تتلاحق أنفاسي.
تطق الأرض شرراً، يصطدم سن الحجاري بالقشرة.
أناكف نفاد الصبر، وبعزم لم يفتر أضرب، أضرب، أضرب، بطن يدي تسلخ.
لا يمكنني الانسحاب، ربما كانت اللحظات الآتية مريحة نوعا ما!
ظهري..آه يا ظهري، وجع ينبثق من هنا، وألم من هناك.
أصدقت الآن أن الإنسان حيوان فقاري؟
ها هي قشرة الجلد تتمزق، وفقرة القوة تنسحق، وفقرة الطموح تنخرها البارومة. “زيق”..”زيق”…. ألم تسمع بعد؟
لم أتقدم إلا شبراًأو بعض شبر،”هيلا هوب”….وحد الواحد، “هيلا هوب”..سهل يا مسهل الصعب.
تضعضع الساقان، تشقق مفصلاهما.
أيخور عزمي؟
سابت عظامي، لا تظن أن جسد الصعيدي من الفولاذ، وقد أثبتت البحوث الطبية أن جسده من لحم ودم وعظم، أخفف من حدة الضربات أو قل خفتت الضربات، التوجعات تزداد:
“بالأمس عملت صبياً لمبيض محارة، أعجن الأسمنت والرمل، وبالكريك أخلط المونة، ولكن التعامل مع الأسمنت اللين غير تفتيت الأسفلت والقار، ثم أن المئة جنيه كان لها مفعول السحر، ذهبنا مساءً لبائع الفلافل، وطلب عبد الناصر قرصاً من العجة، لم يعرف الرجل كيف يجهزها، واكتفينا بالفول كعادتنا.”
أخشي الإخفاق في مهمتي، ولا تقل لي أن الفشل سر النجاح!
إيه..واحد..اثنان…ثلاثة….يا مهون هون.
يتصبب العرق ،تبقبقت بطنا كفيّ، اصبر، فالخندق المأوى لن يطير:
“الخندق من مخلفات الإنجليز، يُثبت على قاعدته مدفع رشاش، تقابل فوهته فتحة تشرف علي الطريق.
وفي المساء استلف عبد الناصر لمبة جاز، فالظلام أسفل الأرض خانق.”
أنفر الهزيمة، بلغ التعب أشده، أضحي الشبر شبرين.
يتمطى عبد الناصرفي مشيته، يقابله المشرف بالترحاب، أتلصص عليهما بطرف العين، يا..يا..متي ينتهي هذا اللقاء الممجوج؟
لا أملك إلا معاركة الحجاري،ولكن أيفيد الترقب؟
لحظات منهكة تدبر، وببروده المعهود يسأل:
لماذا تركتني نائما؟
بصعوبة تولد الكلمات:
حتي لا أزعجك.
دنا مني، قبل أن أرفع الحجاري عالياً، أمسك به، تزحزحت لأجلس، وأفرك يديّ.
ما ليدي؟
أنعمت؟
أبحث عن ضلوع، كانت منذ برهة منتصبة، تهيكل جسداً، الآن يحلو الوصف.
منذ وفادتنا من القاهرة إلي أبي قير وشفتاي مغلقتان ،أرى ما أرى، لا أعلق،وكأن الأمر لا يعنيني!
فالصروف تتمشهد، ولا أستطيع كبتها، والآن فقط حلت عقدة لساني، أضحي السروال ثقيلاً بالأتربة العالقة، لا يمكنني النهوض ثانية.
دعني أبتر الحديث حتي لا ينحو منحى اليأس والحزن، يهاجمني مشهد نجاتي:
“كادت السيارة أن تدهسني أثناء عبوري نفق أحمد حلمي.
وعلي الجانب الآخر عبد الناصر يضحك.
ربما كان يغزل قصيدة ليجبرني في القطار علي الانصات إليها،ليظللني بالسحابة الشعرية، ليحيرني، حتي أشت مع كلماته المفجعة.
وقد تورمت قدماي علي دور النشر لأنقب عن جراب لشعره، لا أحد يسمع،فالوقت عندهم مشغول.
ومن أراد النشر فليدفع ثمن الأوراق والأحبار والآذان.
نهضت من عثرتي لاعنا السائق.”
يد معروقة تشدني لأعلى.
تفاجئني الأرض المحفورة.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.