قصة قصيرة العربة واللهاث حميد محمد هاشم العراق
_ ………………..،!!؟؟
كل شيئ لديك.. أعرف ذلَك.. كل شيئ.. إلاّ نحن.. كل شيئ.. إلا نحن.! تسمرت العيون، الأفواه فاغرة بالدهشة.. والكؤوس التي كانت تدور دارت معها عيونُ الدهشة في أرجاء الصالة تلك.. .(وعليَّ أن أستعيدَ كلَّ شيئ.. بالطبع إلاّ أنت.) … يتحدث رافعاً سبّابةيدهِ اليمنى قبالة وجهٍ تعلوهُ أبتسامةٌ شاحبة.. الشفةُ العليا أعتلت الشفة السفلى وكأنها تمتص منها شيئاً ما.
مؤخرته تنحنحت وهي تشغل ذلك المقعد الوفير.. أصابعُ كفهِ اليسرى الملقية على ركبته أهتزت دون وعيها.. ثلاثة خواتَم في أصبعين اما ألاصابع الثلاثة الاخرى أخفّ وزناً عند الرعشة المفاجئة.. أنتزعت اليد الأخرى سيجارة الكوهيبا من بين الشفتين اللتين أنفرجتا قليلا…
اللوحة العربة.. ذلك الدَيَنُ الذي يمسكهُ.. يتأبطهُ وهو يصّرُّ.. إلاّ نحنٌ.. إلاّ.. نحنٌ.
وذلكَ هو الصهيلُ الذي أرادَ استردادهُ من أنفاس اللهاث.
واقفاً بعد مدخل الباب بخطوتين وثلاثة درجات هبطتْ به إلى مقدمة الصالة.. الصالة الساطعة الإضاءة بثرياتٍ ملونةٍ عالية. وبلاطاتها المُلّمعة تحت أحذية أكثر لمعاناً..من الضجيج إلى الذكرى بعيداً بعيداً… حوشُ(باحة) البيت الترابي.. رائحة التراب تنبعث عند ملاطفة رشاش الماء لها من ابريقٍ عصرية كلِّ يوم صيف.. رائحة الخشب.. عربة جميلة عشيقة ذلك الجواد الأبيض اللون وعرْفٌ رشيق رمادي..الصهيلُ هلاهلٌ تختلطُ برائحةِ التراب الرطِب.. رمشات الجواد تعانق حنين العربة.. كلُّ ذلك يُحَطُ على ورقة دفترٍ عتيق.. لوحة بسيطة طيبة.. ثم لوحة تقول أنني لوحة حقا.. محطات الفرشاة والحياة التي مر بها أحمد ماهود.. أيامٌ.. أشهرٌ.. سنينٌ.. ومنها رمضان هذا مباركٌ وقاسٍ.. والقسوة بدايات الصندوق الأسود في الذاكرة كما هي نهايات سوداء في حياة أكثر أتساعا من الصندوق.
ألاب بكوفيته الميسانية.. شباك.. وموج..يعتمرُ ويغطي ذلك الشيب، طرفاهامتعانقان فوق الرأس بينما أنزل ذؤاباتها لتنزل منتصف الظهر.. صحنان من مرق الباذنجان يتوسط كل منهما كُعْمان.. الأكبر للاكبر أسعد الجالس قبالة أبيهِ والكُعْم الأصغر للاصغر أحمد الجالس يمين ابيه.. وبجوار الباذنجان “العشير الزنجي الرخيص و اللدود” فُرِشِتْ أرغفةُ خبزٍ سمراء.. وفي وسط الميدان أنتصبت طاسة طرشي.. عيدان كُراثٍ، وحفنة من التمر..بدأ الافطار.. ألأمُ( بجركغدِها) الذي يعصّب رأسها.. والوشم الريفي فوق الحاجبين.. جمال وتأريخ.. الأبُّ يلمح صمت الأسعد.. رغبةً في شيئ، أو قلة اليد في القبض على ناصيةِ رغبةٍ ما..
(خوش.. أسعد لا تضوج،.. رحت ابيع عربانة النفط وتسافر للخارج وتبطّل سياسة وتكمل دراسة هناك.. رغم انو لو جدك موجود مكان يقبل أبداً) يرمق أحمد أخيه الذي أنفتحت أساريرهُ وشهيته وهويتناول كُعْمَ الباذنجان الأخير… يتشابهان في الرؤية لكنهما يتعاكسان كيف يُكِملا الطريق. الأب يخرج قبل السحور دائما مصطحباً ابنه الأصغر.. نذر لخمس سنين من الدعاء والعقم… وكانا كلا الولدين وعدينِ لكرم السماء. دقتانِ في الطبلِ للأبّ وألتفاتة نحو الأبن. الله معنا.. لاتبالِ…يجب أن يسافر أخوك
أبي إنك مريض.. وتحتاج إلى الدواء.. ولولا العربة….!! ثلاث دقات متتالية. قلت الله كريم.. أخوك تفترسه السياسة هنا.. نحن لا نتحمل غضب الحكومة.
دقة واحدة.. صمتْ!.. “أووف”.. نفثها الأب..
دقة أخرى…….
ابي أنا لا أرى….. صمتٌ للحظات.. ثم دقتان متتاليتان. كفى أحمد.. كأنما شوكة توخزني…….
عشر دقائق… هرع الابن راكضاً في الزقاق.. صارخاً………….!!
يتوقفُ الطبل.. كلا، كلا.. دقاتُ القلب هي من توقفت.أولاً.. كان ذلك خارج اللوحة لكنه كنقش فرعوني أقيم في ذاكرة الفتى.
…. بعض العيون حملقت في الجثة التي شغلت المقعد الوفير.. وعيون أخرى ما زالت تتفحص الشاب بفردتي حذائه والتي كانت إحداهما مفتوحة الرباط.. بنطلون البّالّة و القميص الجوزي.. ما زال متأبطاً تلك اللوحة.. لا غطاء لها الآن..،!
_ هذا كل ما أريده.. ح..ضر..ة الوزير..ههه؟!
قال هذا وهو يرفع اللوحة بيديهِ من كلا الجانبين وقد غطت نصف وجههُ الأعلى.
كيف دخل الصالة هذا الصعلوك؟ من هو أصلا؟ وكيف يخاطب معالي الوزير بهذا اللغة.
أندفع رجلان للأنقضاض عليه..لكنهما تريثا،.. لمشاهدةِ خاتمةِ العرض.. أنشغل البعض ليتمعنوا اللوحة.. وبدهشة وريبة، أمرائتان بنهودٍ نصف عارية أقتربتا من مقعد الوزير بخطوات متسائلة وعفوية.. خمدت طقطقة الكؤس وارتفع اللغط.. الاؤه.. ال ممممم.. واللوحة معلقة في الفضاء بين أعين الوزير وأصابع الفتى الجريء.. لا الوزير ينطق وقد اكتفى برمشات متسارعة ولا الفتى انزل اللوحة.. وأخيراً وما بعد التراشق بين نظرات الوزير النفطي والذكرى المعلقة أمامه.. قال الفتى،
_لا يعنيني من هو أنت الان أو ما هو أسمك.. فقط.. أريد استعادة عربة وحصان ابي وجدي.
التعليقات مغلقة.