قصة قصيرة بعنوان الهالوك بقلم عصام الدين محمد أحمد
الهالوك
أيه اللي جابك؟
لا شيء.
(سأبعت) لك الفطار مع أخيك.
قمت مهزوماً،اندلق فوق وجهي جردل الخجل.
خرجت من الباب الموارب،السلالم كثيرة،وقدماي متعبتان،انتصف الشارع،الأرض مبقعة (بالربريب) الطين اللزج،جهلته عينايّ منذ سنوات،المقاهي منتشرة علي جنبات الشارع.
لن أركن إلى إحداها،وأيضا ليس لي بالمدينة صداقات،فلن ألجأ لأحد الآن من نفسي المرتابة.
أليس في اللجوء ضعف؟
ألأجل ضيوف القاهرة تطردني أمي؟
كدت أقع أكثر من مرة.
أصلب طولي،خطوي يتئد.
فلأذهب لشقة صهري.
ولكن بماذا تفيد الجدران؟
ستطفو من المخيلة كوامن تكوي البثور.
ربما لا يحد من تفاقم الأزمة سوي التجول.
أي نعم.
أركب الميكروباص المتجه لسوهاج،عراك بالمناكب خشية امتلاء السيارة دون الركوب،تعبرنا المصانع،والجبابين،ومسجد العمري،ومقام سيدي كمال الدين،ومجلس المدينة،والمعهد الأزهري وشعار المدينة الشهير .
العربة تتسلق المرتفعات،وتنساب فوق المنخفضات،المدينة مكتظة بالناس،تشعر بالزهو حينما تعبرهم وأنت راكب،فهذه جحريدة حُبلي بتراكمات الإنسان،أقرأ شعار المدينة:
أخميم مانشستر ما قبل التاريخ.
المؤلف معتوه لم يفقه التاريخ؛سلب المستقبل وأركسه في خمارة التاريخ.
ولكنني- حتى الآن- لا أدرك لماذا طردتني أمي؟
فالوافدون القاهريون جيبوهم منتفخة بالهدايا.
فرملة مفاجئة للسائق،وفوق حائط متهدل وبخط منكسر:النجار للإنترنت والدش والمحمول.
حل القاهريون بالدار وموجات المحمول لم تغادر السماء،ازدحم الغلاف الجوي بالسؤال عن الطعام والمنام واليقظة والدعاية.
زبون جديد أضيف إلي السيارة التي عبرت المحكمة منذ برهة،تنحت المحكمة وجها باللوحة:
“أتنقل بين ردهاتها بحثا عن المجلس الحسبي،فالكبرى أزف زواجها،ولا بد من صرف مستحقاتها المخزنة.
من دهليز ضيق إلي قاعة فسيحة،يتوسطها الأستاذ حمدي بمكتبه العتيق،والمبلغ المنصرف لا يتجاوز مائة جنيه.”
تسمرت السيارة أمام المستشفى،نزل من نزل وصعد من صعد،ومازال المبنى القديم ماثل:
“في المساء تصحبني الشلة إلي ممراتها،يبحثون عن ممرضات وجه بحري الفائرات،أثداء ليست ككل الأثداء،يجافيها الستر،يعانقها الشيفون.
ريق الشلة الجاف يريل،وريقي ينتحر قبل أن يُولد.
أجد نفسي وحيداً وهم لا أثر لهم،فأجرجر قدمي منطرداً.”
ألم أقل لك قبلاً إنك حينما تطالع طرد ومشتقاتها تتيقن أني المفعول به،والفاعل ضمير مستتر تقديره…..
الركاب يستهلكون الكلام.
يكذبون،يدعون البطولة.
وأنا في اللهو منغمس،يشغلني التذكر،يعبث بي التاريخ،نافوخي سلة نفايات،ردفتنا عرب الأطاولة ومحروس،وها أنا أهبط بالمحافظة.
لم ينتظرني المحافظ بعد.
لا ألمح خفيراً يحتفي بقدومي.
ربما كان لي معهم عتاب!
فلأعرج إلي الجامعة القديمة،المبنى الوحيد صار عشراً،أعبر سور كلية الآداب:
“دكتور الفلسفة يصول ويجول في المدرج شارحاً فلسفة الطرد في الدول المتخلفة.
يؤكد سبق شهريار في هذا المضمار،وتأسّى عشتار به ،يضرب وجوهنا المكفهرة بتاريخ الحوادث،لا يدرك أن بطوننا جائعة وأفئدتنا مرتبكة.
وأخيرا طردنا متهما عقولنا بالبلادة.
وفي الغرفة المجاورة أستاذ البلاغة يشيد من الطلل برجاً عاجياً،يستخلص نظريته المكررة في البكاء العذري،نثره الأنين فانسربنا واحداً تلو الآخر.
يزنقنا مدرس الإعلام في معمل الصحافة،يفصص آلات الطباعة،ويسهب في شرح الجمع التصويري وكأن التصوير الفردي لا يفيد.
بالفعل دفعك التأزم لحديث لحده الحاضر.”
تتخيل الآن صعودي سيارة أخرى متجهاً لسوهاج.
لتراني متسكعاً علي المقاهى،ولكنني هذه المرة سأخيب ظنك.
سأقصد منطقة مهجورة،سيرتفع أمامي مسرح خشبي.
سأعتليه،سأتمايل علي نغمات الربابة،أنا الراوي والجوقة والجمهور،وقبل أن تبدأ الحكاية انسطرت النهاية،ولكن لا بد من نص يصحبه تشخيص.
فما جدوى صعودك المسرح؟
اهدأ قليلا ،وقل أي شيء.
في الركن البعيد الهادئ قعدت فوق الرفات.
تحيط بي أشلاءوجماجم وعظام وصفحة صفراء مبقعة بمداد رخيص الثمن ويطارده التلاشي،أردد خلف كورالي:
لماذا طردتني الحكاية؟
لا أسمع رداً.
ألم تسمع؟
أنصت:
دقة زار،خبطات دف.
انقباض رحم،اختناق بويضة.
طرقات طبلة.
رش دماء الفدو العظيم.
هسيس الخطو الوئيد،رنة جرس،طقطقة بخور.
اصغ ثانية:
صوت حنون يحتويني،يداهمني،يربت كتفيّ.
لا تظن بي الهذيان.
ففي المخيلة شتات ورفات.
دروب وقصور.
حكاوي الزمن الآتي والغابر.
تجاذب ونفور،حجاب وسفور.
قطار وطنين،مئة محطة أو يزيد.
أجساد مرتعشة،سلال مليئة بالأماني.
أرنو لأمنية.
السعر الجهم يجفف ريقي.
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.