قصة قصيرة صالح عبدالصاحب ابراهیم اميري
قصة قصيرة صالح
بقلم عبدالصاحب ابراهیم اميري
رجل سبعيني يبدو القلق على محياه ، يحمل بيدة باقة من الزهور الحمراء، ويخترق بعربتة شوارع مقبرة كبيرة، يلتفت يمينا وشمالا يتفحص القبور كمن يقصد محب
قطرات من الدموع سقطت من عينية رغما عنه، استرد أنفاسه وما ان استقرت عربتة عند قبر معين، قرأ شاهد القبر بصوت مخنوق، وردد الفاتحة ، ترك العربة مسرعا، معتمدا على عصاه، وصوت نسائي رقيق علا في المقبرة
–ولدي صالح. أتعبتك هذه الزيارة وقد اخذ منك العمر مأخذا، لكنك تبقى دائما ذلك الصغير الوسيم، أحبك يا ولدي
شهق الرجل السبعيني وكاد يقع من الدهشة
–اشتقت لك يا أماه، والشوق يهشم الحواجز، ها أنت ترين لازلت بعافية
وقف عند القبر ، وطرق بالعصا على القبر طرقات منتظمة كمن يطرق بابا
–كنت بانتظارك يا ولدي منذ صلاة الفجر
رد الرجل السبعيني على أمه،
–لم يغيرك الموت، أنت كما كنت تستيقظين مع طلوع الفجر
في حي من أحياء بغداد القديمة، والشواكة على وجه الدقة،و شهر
تموز الحارق من عام 1952 أنشغلت أم أربعينية بغسل ثياب أسرتها المكونة من ستة أشخاص، (صالح ) الطفل المدلل ذو الخامسة من عمره آخرهم
أزدحمت الثياب وكثرت وباتت كهضبة شاقة، ما أن تنظر إلى الثياب يتسلل التعب إلى جسدها النحيف والمريض ، تشعر بصداع غريب،
فلا مفر من غسل الثياب وعرضها لاشعة الشمس ليمتص مائها المتبقي و تنشف، و إلا العواقب وخيمة، فاعضاء الاسرة كانوا لا يملكون أكثر من ثوبين أو (وهذا كان حال العقد الخامس من القرن الماضي) ، وقد حان وقت غلسها،
جهزت عدة غسل الثياب من أول الصباح ،كرسي خشبي قصير
(التختة)،قدر الماء ، بالإضافة إلى قدر ماء التطهير و الموقد، وطشت الغسيل، صنبور الماء، إضافة إلى تراب الحنطة، ( كان يستعمل في وقتها للتنظيف) والصابون الأبيض، (المادة السحرية لتنظيف الثياب) ، إضافة إلى قوة العامل على غسلها،. إذ يستعمل يدية وأطرافه للتنظيف والتطهير،
إنشغلت الأم بغسل الثياب وانتخاب الثياب البيضاء، تراقب من بعيد ولدها (صالح) الذي قرر اللعب في الطابق الثاني لاغراض هو يعرفها،
غرف الأسرة، في الطابق العلوي،. غرفة ابوية، وغرفة أخوية. ومخزن الأسرة و الحاجيات الإضافية،
سأل لعاب صالح بعد أن تذكر طعم الشكولاته التى أتى بها أبيه من سوق الشورجة
الأب – ها بابا عجبتك
أشار براسه اي نعم
-اريد وحدة لخ
تدخلت الأم مسرعة
الأم – “أبني حلاته زايد أخاف على سنونك خليهه للصبح ،
بلع صالح ريقه وتقدم نحو الساتر. نظر إلى أمه التي أنهكتها الثياب وقال
-يوم مشتهي جكليت(شوكلاته)
-خلي أخلص ، أجي وانطيك
-هسه أريد
-أنتظر أبني،. فد اشويه
-هسه أريد
نادته الأم
-“انزل يمي،. اني وحدي بالبيت، ضايجه
-” أريد العب فوق
ذهب صالح للمخزن. يتجول ويبحث بعين بصيرة عن الشكوكلاته
استقر به المقام عند خزان الصحون البلورية.
وتذكر أن أمه اعتادت أن تحتفظ مثل هذه الأشياء بخزان الصحون، فالبراد في وقتها َكان لا يسع إلا الماء و قطعة من الجليد، يحفظ برودة البراد وقليل من الخضار والفواكه
قرر( صالح) ان يغزو الخزان،، فتح بابي الخزان، وابتعد للخلف ، ليحدد موقع الشكولاته
نادته أمه عاليا
-هاي وين صرت أبني
تلعثم( صالح) قليلا، ركض للساتر، رمى نظرة على أمه
-اني هنا، كنت العب بالغرفة
ألقت الأم النظر صوب إبنها، أبتسمت في وجهه،
-“عفيه عليك العب فد أشويه أجي
أنشغلت بالغسيل، وعاد صالح يبحث عن الحلوى،
قرر التسلق للمخزن، أجتاز الطابق. الأول من الدولاب دون حاصل فكان لابد من الوصول للطابق الثاني وحتى الثالث ليحقق النتائج
وضعت الأم الثياب البيضاء للتطهير، في الوعاء المخصص لهذا الأمر، فتحت صنوبر الماء بالوعاء، رمت الملابس المغسولة بالماء، لحقه صوت انفجار، وتهشم صحون، هز أركان المنزل، صرخت بأعلى صوتها
-يمه أبني صالح
دوى أسم صالح في ساحة المنزل ، وبدأ يلف و يدور في البناء ولا جواب،
ثيابها تقطر عرقا مخلوطا بالماء، ولون وجهها يتغير من لون لآخر،
تصرخ، صرخات متقطعة لا تعي ما تقول. الا ان أسم صالح، لا ينقطع من بين شفتيها،
-صالح، صالح، صالح
تسلقت درجات سلم المنزل، بصورة لا يتصورها إنسان
سكون رهيب يخيم على البناء، حتى العصافير التي كانت تجتمع في ممرات الطابق الثاني فرت أثر الانفجار، خوفا على مصيرها،
دخلت الأم غرفة المخزن مذهولة، مسرعة، لم تر شيئا عدى خزان الصحون تلاشى على أرض الغرفة،
حبات الشكولاته انتشرت على طول الغرفة وعرضها
الصحون باتت قطعا صغيرة، سحقتها بقدميها الحافتين دون أن تعي
قطرت الدم أنتشرت في المكان، بدأت تلف وتدور كثور جريح لا تستقر بمكان، تصرخ وتضرب خديها، وتسأل الجدران والخزان عن ولدها
- إين ولدي صالح
. إين صالح
تبحث تحت الصحون عن إبنها
حاولت من فتحة الفجوات ،التأكد من سلامته، حركت الخزان، رفعتة عاليا مستعملة كل ما لديها من قوة ونادت الباري ليكون لها عونا
-يا الله
أنقطعت أنفاسها، وخابت عينيها،
لم تجد لقرة عينيها أثرا،
دارت الأرض بعينيها، فقدت توازنها
، سقط الخزان على ساقها تهشم ما فيه من صحون سالمة،
ارتفعت نداات الألم، قفزت عاليا تصرخ ،تبكي، تنادي، كمن هي في ساحة حرب ولا من مجيب
عيون صغيرة دامعة، تراقب الموقف من خلف باب مفتوح أتخذته ستارا وتندب حظها،
أنين الصبي بدا يتضح، عاد الأمل للأم، فدارت عينيها تبحث بقوى جديدة، من الله بها، شاهدت صالح
علا صوت بكاءه وانفاسه الخائفة
لجأت الى إبنها ، حضنته بكامل حضنها، تبكي، تصرخ، تشكر الباري
تقبل إبنها وتشمه،الصغير يردد،
-كسرت الصحون
-فدوه الك
إبني صالح
دموع الرجل السبعيني غلست القبر وصوت أمه يعلو من القبر
–شكرا لله أنت سالم
التعليقات مغلقة.