قصة قصيرة :ميلاد الكرامة للكاتب عبدالله عبدالإله باسلامه
أسقطت عيناي المبللتان بالدموع بسرعة، أشاح بوجهه العابس عني ملتفتا نحو النافذة،أدركت أنه لمح نظراتي، فلم أملك إلا أن تنهدت بصوت مرتفع كأنني أواسيه، وانسللت خارجه من الديوان.
بمجرد خروجي ستتسلق نظراته الجدار، ليتأمل صورة جده بقميصه الواسع ناصع البياض، وبحزامه الجلدي المعبأ بالرصاص الذي يتمنطق به، قد وقف على ساقه الوحيدة قابضا على فوهة بندقيته كأنها صولجان.
وتحت الصورة ترقد البندقية على حاملين نحاسيين يضماها بكل جلال وهي تلمع على الجدار الباهت .
سينهض متحاملا على نفسه لينزلها بحرص، ويجثو على ركبتيه، يضعها على حجره بحنو كأنها أحد أطفالنا، ويسحب من جيب سترته الداخلي المنديل الناعم الخاص بها كي يمسح – لآخر مرة – جذعها الخشبي، وأجزاءها المعدنية، وقد تطفر منه دمعة يخطفها بكم سترته .
سيعيد تفتيش ذاكرته للمرة الألف عله يجد شيئا يبيعه، أو دين له نسيه، أو دائن محتمل لم يطرق بابه، سيجيل نظره في الديوان العاري الذي كان أثاثه من أنقذنا الموسم المنصرم، ليرتد إليه حسيرا كسيرا .
هاهو يسعل من جديد ربما اختنق بأفكاره، أو تحت وطأة البرد، أشعر به يزحف نحو الحشية المتبقية من الأسفنج والقطن التي ينام عليها، ويتوسدها ساعات الأصيل يقضيها في سماع الأخبار على الراديو بإهتمام، وفي المساء يفردها حين يجمع الأولاد حوله ليحكي لهم عن بطولات جده، وكيف فقد ساقه في معركة التحرير، وكيف هزم الاستعمار بسلاحه المرعب الذي كان يلاحق فلول الغزاة وأذنابهم، وعلى ضوء الشمعة يجسد بطول ظله على الجدار دور الجد، فيطوح بالبندقية باحثا عن المحتلين ومرتزقتهم، خلف الصخور، وفوق الأشجار، وداخل الجحور فيثير ضحكهم، وينسيهم ضنك يومهم، فينامون بدون عشاء مبتسمين.
أما أنا فيخصني بتحليل رصين عن أساليب الإستعمار المستتر خلف أزمة الدواء والغذاء التي نعيشها، وخبثه في تغذية الحرب الدائرة في البلد، وكيف يحاول بأمواله كسر عزيمة الناس، وشراء ولائهم… وأمام حماسته وبريق عينيه أعقب بالدعاء، أو أتمتم (إن شاء الله) خشية أن أكسر بخاطره، الذي لم يكسره خسران أمواله وتجارته، وصحته، ورغم فقداني الأمل بنهاية الحرب، وعودة الوضع كما كان عليه إلا أنني أعلل نفسي بالصبر، وأمنيها بفرج قبل حلول الخريف، فإذا بالأيام تهرع بنا نحو أنياب الشتاء.
أصبحت أستمع إليه واجمة، شاردة الذهن، صلدة أمام محاولاته نبش التفاؤل في روحي، أو إسكات ذلك النداء الحذر الذي تبثه فلتات لساني، وقسمات وجهي، ونظراتي نحو (الراقدة) فوق الحاملين النحاسيين أملنا الوحيد؛ فيوم التضحية بها سيكون ميلاد موسم بل مواسم دسمة، ستدفئ البيت، وتتخم مخزن الطعام، وتحل كل مشاكلنا بذلك الرقم المهول الذي يراودني به زوج جارتي (الدلال).
حتى سقطت الصغيرة فريسة الحمى، وبدأ يذوق طعم الدم إثر نوبة السعال التي عصفت به، ومن بين زحرات أنينه انتزعت موافقته، لكنه أردفها بنظرة لا تشبه تلك التي حدجني بها يوم عدت ببعض الملابس للأولاد من عند صديقاتي، ولا تلك التي رمقني بها لحظة طرقوا باب البيت بصدقات الزكاة، بل نظرة غريبة، كأنه يقول (القرار لك) رافقتها لمسة راحة يده الساخنة على كتفي كأنه يردف بها (أنا أثق بك). تثلجت أصابعي المغموسة في وعاء الزيت الدافئ الذي كنت أدهن به صدره، وتجمدت هنيهة كأن جبلا تموضع على كتفي فجأة!
وبدلا من أن أرتاح من همومي – كما توهمت – دهمني إنقباض، وقلق قضيت بهما نهار اليوم التالي، زاد من توتري ما همست لي به جارتي بنبرة متغيرة كأنها نفسها متفاجئة: (قال زوجي أن الانكليزي سيحضر بنفسه).
أخذت أتفحص البندقية كأنني أراها لأول مرة، وأقلبها لعلي أكتشف سبب قيمتها، وسر أهميتها و…
انتزعتني طرقات غريبة قوية كمن يريد اقتحام باب البيت، أجفلت وأنا أطل عبر النافذة لأرى الدلال بصحبة غريب يتطلع إلي ببرود، ما إن لمح البندقية على كتفي حتى رفع الحقيبة المنتفخة التي يحملها، وقد تهلل وجهه القبيح، وابتسم بسخرية، واحتقار وهو يدعوني بإشارة من أصبعه السبابة، شعرت ببرودة قارسة في أطرافي أشد من برودة البلاط تحت قدمي، وغليان يفوق حرارة البندقية التي ارتجفت بين يدي، إثر الرصاصة التي أطلقتها في صدره.
التعليقات مغلقة.