قصة للنقد : سيارة جاز للأديب مجدي شعيشع
قصة للنقد : سيارة جاز للأديب مجدي شعيشع
“الظلام أوسع زنزانة على وجه الأرض”، مقتبسة من متن النص
استمتعوا به:
قصة قصيرة سيارة جاز
دفعت أم حسن ابنها بوعاء فارغ، ليملأه جازاً من تلك السيارة المقلوبة على الطريق.
توعدته: لأذبحنك إن تأخرت!
خرج من البيت والنوم يمتطيه، يتحسس جدران البيت كقط يأنس بصاحبه، لا تدري من منهما يستند على الآخر، يجر بقايا جسده الرخو، فى إحدى ليالي شتاء 1970، سقطت ستائر الظلام على البيوت، بعد انقطاع آخر خيوط الشمس، شهقة الرعب كألحان جنائزية، تصُم أُذُن الليل
سكنت القرية، ارتفع نباح الكلاب الضالة في الأفق، يفتت سكون الليل.
قبل أن يأوى الناس إلى فرشهم، انفجر إطار سيارة نقل، فاستحال نباح الكلاب عواء، وتحركت المياه الراكدة فى بِركة الصمت.
انتشر صدى الحادث بين البيوت، انتشار النار في الهشيم، اختلط صرير الأبواب بخشخشة النوافذ، وارتفعت الهمهمات متسللة من بين الجدران .
كانت السيارة محملة بخزان جاز يكفي لإضاءة قرية كبيرة بحجم قرية (ميت حديد).
حسن طفل نحيل، فى الثانية عشر من عمره، يغوص بين المارة من حوله ولا يرى أحداً، السماء تسقط كِسفاً سوداء تتعلق على الحوائط والنوافذ، فلم يجد أمامه إلا المسجد يلوذ به، قضى حاجته، توضأ، ثم صلى العشاء….
يتخبط الناس فى الطرقات كعميان مغتربين، أصواتهم بالذكر والهمهمات تحدد المسافات بينهم.
جفت فتائل قناديل القرية، إلا قنديل المسجد الذي بدا شاحبا، كالمحتضر المتشبث بالحياة؛ تارة يفتح إحدى عينيه المرتعشتين، وتارة يتكوم ضوءه فى ركن قصي من المسجد، يرتجف إن لفحته أي نسمة، يتسلق جداراً باهتا تعلوه صفرة داكنة، صفعه هواء بارد، اخترق شقوق نافذة متآكلة الجوانب، فسقط مغشياً عليه، ثم عاود النهوض بثبات، منتصباً من جديد متحاملا على الجدار، بعد أن أضاف إليه الجد قاسم مؤذن مسجد الوصيف بعض الماء، يطفو الجاز؛ فيستمر الفتيل فى الاشتعال.
الخوف يُفقد حسن القدرة على المشي، تتخبط ساقاه.
غرقت الطُرُق فى طوفان الظلام، واختنقت الحارات فى وجه حسن، تزاحمت الخرافات وحكايات الرعب؛ يعيشها الآن حقيقة، حبس أنفاسه وثقلت خطاه، مرة يقرأ سورة من القرآن، ومرة يلعن الجاز ومن يطلبه.
الظلام أضيق زنزانة انفرادية على وجه الأرض، يتساوى داخلها الصالح والطالح، الكبير والصغير، خطوات حسن ثقيلة محاصرة بالرعب، مثبتة بوتد فى الأرض، أقصى أمنياته أن تهمد التهيؤات والوساوس، التي تنبح فى أذنية كالكلاب الشرسة، حتى يخطو بضع خطوات بسلام…. لا شيء يدغدغ أسوار العتمة غير التقاء كل الناس على هدف واحد، حُفر الشوارع تبتلع ساقيه المُرتجفتين، والكلاب النائمة فى عرض الشارع تنهش من يصطدم بها.
تقفز الأشباح على أكتاف حسن وتتراقص كالأفاعي، لا يستطيع الإسراع أو المشي ببطء، يقتات الظلام من خفقات قلبه، وتختمر مياسم الأمن فى بتلات الخوف.
ازدحمت الطرقات بالملثمين، استباحوا فى الظلام ما يستبيحه قِط جائع تحت مائدة متخمة…
الكل يحمل صفائح، يغدون بها لخزان الوقود فارغة، ويعودون بها ممتلئة، والأقوى من يكرر المحاولة.
لم تُرفع الحدود في زمن المجاعة، فلما سقطت فى الرخاء؛ حلت المجاعة.
دار حسن فى نفس المكان، حافى القدمين، ولم يصل إلى منبع الجاز.
الخوف بنى لليأس تيهاً آخراً استعمر عقله، وخارت عزيمته، والجوع ينهش ماتبقى من قواه.
لاذ بدكان عمي عطا، المُحاط بأفرع الشجر وأجولة الخيش الفارغة، تسلل بين أقفاص الفاكهة، تحسس الأنواع الطازجة، اختار أطيبها، غرس فيها أظافره، ومزقتها أنيابه، هلك جوعه حتى شبع، هدأ خفقان قلبه وتلاشى الفزع، أسند رأسه على ضباب الليل، توسد بعض القش الجاف، شَعُر بالأمان؛ فنام، فالشبع رسول النوم.
أسعف أهل القرية السائق واطمأنوا عليه، ونقلوه فى مكان آمن، ثم حطوا على خزان الوقود كالجراد يحط على الأخضر واليابس، اغتصبوا حقاً لم يكن لهم، تزاحموا على سيارة الجاز زحام الماعز التي جفت أكبادها على عين ماء، حتى سحبوا ما تبقى من الخزان، ابتلعته الصفائح لتبتل فتائل القناديل؛ فحطموا الظلام، وعادت الحياة للشوارع متوهجة تخترق الآفاق.
أزاحت خيوط الفجر عتمة الليل، وأم حسن تقضم أظافرها بين خوف ورجاء، حتى وصل ابنها الضال يئن تحت ثقل الوعاء، والخيبة تثقل قدميه أكثر يجرهما كالكسيح!
ساعدته جارتهم التي جاءت تهدئ من روع أمه، سقط الوعاء بين يديها، لم تجد أمه الجاز؛ سلم لها رقبته تسليم اليائس من الحياة، لم يقوَ على أن يحمي وجهه النحيل من طواحين الهواء التي أهلكته…
وهي تدرى أن الغزلان لن تشرب بين أسود ترتوي، ثم تسبح فيما تبقى حتى تُعكِر النهر، وحسن يترنح برأسه كالبندول.
صرخت بصوتها الخشن:
أين الجاز ؟
رد بصوت متهدج من فرط الصفعات التي طحنته:
وجدت على جانب الطريق سيارة مقلوبة، محملة بالبرتقال…
————
الجاز : هو الكيروسين مشتق من النفط، يستخدم للإضاءة.
أ. محمود حمدون
بداية أروع ” السرد”, ما يأخذ بعنق القارئ ولا يدعه حتى ينتهي, وحتى يبلّغ رسالته للمتلقّي. لعل القاص هنا حقق تلك البديهية بكفاءة منقطعة النظير …
من ناحية ثانية , ألقى النص الضوء على ما يفعله الفقر بضحاياه, حين تتهاوى المُثل تحت اقدامهم , تتكسّر الحدود, يصبح الحق في الحياة مقدّمًا على باقي الحقوق ولو كان حق الملكية الخاصة, ثم أنّي لم أجد فارقًا بين جائع يلهث خلف رغيف عيش , يتجاوز الحد للوصول إليه وبين باحث عن ضوء يقيه غائلة عتمة الليل , فكلا الجوع والظلام صنوان , عدوّان يتآمران على المرء ليحرجاه من جور العقل لما دون ذلك ..
نص ماتع عن جدارة, غير أن النزعة الدرامية الرائعة به شابها شيئان, كثرة الوصف , الخاتمة التي غلب عليها المرح فأفقدت النص بعض رونقه .
أ. هالة علي
اذا جاعت البطون … تاهت العقول.
سرد رائع ووصف صادق للمعاناة عندما تتضافر نوائب الحياة وتضرب الناس بلا رحمة … الام همها قطرات جاز تُضيء عتمة وتشعل نار موقد والابن أمام ما به من مسغبة كان اكبر همه إشباع جوعه.
سلاسة النص تستدرج القارئ دون ملل لانهائه.
كل الشكر لكاتب/ة النص ومزيد من الابداعات.
أ. أحمد فؤاد الهادي
“سيارة جاز” عنوان اتخذه الكاتب لقصته، أراه كاشفا للنص إلى حد ما، ولو أنه اكتفى بكلمة “جاز” فقط لكان أكثر سحرا وتشويقا.
عندما يشح الجاز في قرية ليس لها من وسيلة غيره لشق ظلام الليل تستحيل الحياة فيها إلى سجن كبير مظلم، ويصبح الجاز أهم من الخبز، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، وقد تأتي البشرى من مصيبة تصيب الآخرين.
دارت كاميرا الكاتب لتوثق جميع مواطن بيئة القصة المادية والاقتصادية والنفسية ببراعة ودون أن طغيان من عنصر على آخر، مستخدما قدرته الروائية في الرسم بكلمات دقيقة الاختيار واضحة المعاني ضمن أسلوب سلسل جاذب لا يدع فرصة للقارئ للفرار من بين السطور، والكاتب يجيد بناء المحسنات البديعية ويعرف كيف يبني عباراته وينسج رقعة قصته، فرأينا كل ما رأى وسمعنا كل ما سمع
وللرمزية دور مؤثر وواضح في النص دون إلحاح، ولعلها أبرز الرموز كان مصباح المسجد الذي قاوم الظلام لأطول مدة، ورجل الدين الذي كان وراء تلك المقاومة بمحاولاته الدائمة للإبقاء على مصباح المسجد منيرا.
وشاركناه تصاعد الحدث وصحبناه وهو يمضي إلى نهاية الأحداث حيث فقد الحدث الكثير من الدراما التي اكتسبها على طول السرد بتلك النهاية التي اختارها.
كاتب يمتلك أدوات الإبداع ويجيد توظيفها، وسرد جميل، وأسلوب شيق، وفكرة ذكية، شكرا جزيلا مبدعنا الراقي، ومنك ننتظر المزيد.
أ. فتحي محمد علي
قصة وصفية جذابة شيقة تعكس واقعا اجتماعيا في هذا التاريخ المؤكد عليه بها.
سرد وحوار قمة في المهارة والاقتدار.
لفظ دقيق موح.
صور بيانية وصفية موحية.ممتعة.
لغة سليمة نحوا وصرفا ودلالة؛إلا أن القاص/ة
خشي/ت أن يحسد/تحسد
فتعمد/ت إبقاء هذا الخطأ الكتابي المرتبط بخطأ نحوي:
وتارة يتكوم ضوؤه؛لاضوءه.
تحياتي وامتناني.
أ. محمد عواد
لغة ثرية، وسرد ماتع، ووصف أخآذ،
الفكرة بسيطة، شابتها نهاية لم يتم التمهيد لها، رغم التلميح الغير مباشر لها، بولوجه عند ” الفكهاني” والنوم بجوار دكانه…
لكن المجموع ..جيد ويشي بقصاص مبدع…
1″ سيارة جاز”….العنوان قسم بين العامية والفصحى، فظهر مرتجا شاذا…( سيارة كيروسين) أو ( عربية الجاز) …
2- ليملأه من السيارة المقلوبة…
من الممكن ان نسرق حبوبا، نسرق سكر…لكن لايتماهى مع منطقية السرد، سرقة مائع إنقلبت سيارته…لانها افرغت حمولتها على الأرض، ولم تفرغها فى حمام سباحة
أ. جمال الشمري
قرات واستمتعت بالقصة سابقا
قصة بديعة بحبكتها وسردها وبؤسها المعلن
لغة رشيقة وتنقلات جميلة وكأن ةلقصة استحالت فيلما سينمائيا ثلاثي الأبعاد ويضج بالحركة والزحام حول السيارة المقلوبة
كاتب رائع بقلم قصصي مميز
أتمنى له دوام التألق والإشعاع
أ. محمد كسبة
سيارة حاز
عنوان مناسب للقصة التي تناولت احداثها واقع اليم يجمع بين الطيبة و الطمع في ممتلكات الغير
الكاتب لخص في القصة كل مظاهر الحياة في فترة السبعينات في القري حيث الفقر المدقع و التدين الظاهري و الحرمان الذي حول القرية الي ذئاب تنتظر الفريسة .
اجاد الكاتب في استخدام الصور الجمالية و المحسنات البديعية التي أثارت العاطفة و الخيال و شعرنا بموسيقي تصويرية داخل النص و نجح الكاتب في وصف ليل القرية و حالة الرعب و الخوف و القلق من الظلام و المجهول و الاشباح .
كما برع في توضيح شخصية الطفل حسن الذي كان صورة طبق الاصل من نمط التفكير التقليدي السائدة في القرية بما فيها الأم التي دفعت بابنها في العواصف للحصول علي نفع باطل .
الخاتمة متوقعة من البداية
تحياتي للكاتب الذي أضاف روحا للنص المكتوب و أبهرنا بألفاظه و عبارته الشيقة
كما نقول بالعامية
عمل من الفسيخ شربات
أ، إياد الصاوي
ناولته يدي فأخذ برجلي ..
هكذا فعل .. جرني جرا بلا روية
لأسكب دمعة وأشعل شمعة ..
شخصية الإنسان هو حصيلة التفاعل بين مجموعتين من العوامل ( الوراثة ، والمحيط ) ..
النص اعتمد المفارقة الساخرة بين هذين العالمين المختلفين في الماهية والوجود ..
استطاع أن يؤثر في القاريء من خلال سرد هذه الأحداث التي تتسم بالإدهاش ..
والتأثير ، دائما يكون لسببين ، إما أن يكون من خلال اللغة الموظفة ، أو من خلال الأحداث التي تكون عبارةعن السرد العجائبي، والبناء المشهدي ، من خلال توظيف الأنسنة ، والسخرية، ضمن اللجوء إلى المفارقة، والتشييد التقابلي ، والتوازي . منتقدا موت القيم الإنسانية
خطاب الاغواء وتأثيره القاتل ،
راهن القاص على تقديم منظور جديد للحرية والحق .. وأفلح ..
في فصله ووصله عازفا ماهراً ..
نصٌّ لا يعاني الحرمان أبدا…بل يترغد في ترف البلاغة ورمزية المجاز ..
ربما أكون وفقت في قراءتي…
و ربما أكون قد ذهبت في طريق آخر غير الذي قصدتَ لحظة الإبداع…لكن هذا الذهاب لم يكن من عندي بـ قدر ما كان بـ إرشادٍ من نصك البارع…و هذه الإيجابية التي أنارت السبيل
راقني جدا الحضور في هذا النص العميق الحزين…الإنساني جدا
مشكلةٌ إنسانية معاشة…و مشاعر لا يمكن تجاهلها ..
وأتضامن مع من نبه من الفضلاء للهنات الإملائية ..
هنا اسمتعت .. وحشرتنا حيث أردت حين نفخت في صور الحروف .
خمس نجمات .
تعليق أ. محمد كمال سالم
تحية من القلب لكم أحبتي نجوم قصة للنقد/
محمود حمدون
Halla Ali
عاشور زكي أبو إسلام
أحمد فؤاد الهادي
فتحي فتحى محمد علي
Mohamed Awwad
جمال الشمري
محمد كسبه
د.إياد الصاوي
كان هذا النص البديع لأديبنا الكبير مجدي شعيشع
تحية حب وتقدير لك أخي الغالي وشكرا لإثرائك قصة للنقد بمساهمتك القيمة.
أ. عاشور زكي وهبة
في فترة السبعينات كانت القرى المصرية تعيش في ليل ظلامه دامس. وكان الكيروسين له دور في إنارة البيوت بلمبات نمرة ١٠ونمرة٥.
وبابور الجاز والأستفان أو ( الأستفييه) كما كان يطلق عليه لدينا في الصعيد، وهما موقدان للطهي في الريف يعملان بالكيروسين أيضا.
بعثت أم حسن ابنها في ظلام الليل لينال جزءا من فيض الجاز الذي هبط أو اندلق في القرية؛ لكن صغره كان سببا في عدم قدرته على منافسة الكبار، كما يئست ابنتا شعيب من في سقي الغنم وسط سطوة الرعاة. لكنهما صادفا موسى وموقفه الرجولي.
أما حسن فلم يجد بدا من العودة بشئ، فعاد محملا وعاءه بفاكهة عم عطا. لكنه نال الصفعات مع ذلك. لأن عصير البرتقال لن يضيء لمبة ولن يشعل وابورا…
ولأن اللصوصية لا تصنع فروسية.
تحياتي للأديب الصديق الأستاذ مجدي شعيشع
ولأستاذنا محمد كمال سالم على الدعوة الكريمة.
في أمان الله.
التعليقات مغلقة.