قصة للنقد “في نهاية الخط”
بقلم إبراهيم معوض
الوقت يمضي. القطار يطوي المدن والقرى ولا يعبأ لإزعاج ساكنيها، سحبت نفسا عميقا من سيجارتي وأطلقته وقلت في نفسي: لابد لكل شئ من نهاية.
ها هو القطار قد بدأ في تخفيض سرعته تبشيرا باقتراب نهاية الخط الحديدي. بإيقاع مرضي ممل يسير مثل من تورمت قدماه في صحاري الدنيا، كلما هدأ القطار علا وجيب قلبي، قطبت جبهتي حتى انحنت خطوطها، أسرعت أفكر في كذبة جديدة؛ فقد أدمنت الكذب كما أدمنت الدخان. الناس ينتظرون قدومي بشغف إنتظار الأرض للمخلص، تحلقوا حولي فور هبوطي إلى الرصيف، هذا يرفع عني الحقيبة وهذا يجفف عرقي بمنديله وتلك تزغرد ملء فمها.
جاء المعلم يحمل شهادة عليا؛ حادة كنصل سكين يستطيع أن يمحو بها غبش الجهل.
كل العائلة القريب منهم والبعيد قالوا: هذا ولدي. وحملوني.
القيت نظرة وداع على القطار الرابض في نهاية الخط كمجرم حبيس وقلت في نفسي: لطالما سترتني، ليت الرحلة فيك لا تنتهي.
أعدوا لي أفضل كارتة في الكفر؛ عجلات جديدة ومهرة فتية، كلما مر الركب بمكان هيج علي ذكريات الطفولة والصبا، هنا كنت أرسم الحجلة، هنا كنت أقذف الجعران الخشبي وهنا عرفت لأول مرة الفرق بين الولد والبنت؛ حين قبلتني في خدي فأشعلت بدني كله ولم ينطفئ من يومها.
- اتعلمين أنني سأغادر هذا الكفر البائس في صباح الغد ولن اعود إلا ومعي الشهادة العليا.
بكت ثم انتحبت ثم قبلتني مرة أخري حاولت أن أضمها إلى صدري ولكنها فرت كما يفر العصفور من قبضة الصياد.
لم أرها بعد اليوم، ولم اكف عن تذكر تلك اللحظة، لم لم تنتظرني على محطة القطار؟ كانت تكفيني وحدها أيها البلهاء، مالي وكل تلك العمائم والعجائز، كنا سنقطع الطريق سيرا على الأقدام، ليس لنا حاجة في مراكب القوم، تضع كفها في كفي وتحكي لي عن كل السنوات التي مضت عليها بدوني، وانا ربما انزلق لساني امام سحرها ونطق بالحقيقة.
كل ما مضى علينا يا حبيبتي هو وهم؛ إنتظار أهل الكفر لي، الشهادة الكبيرة نبوءة أنني مخلص الكفر من الجهل والفقر والمرض، كل هذا مجرد عبث معادلات بلا نتائج حقيقية ملموسة، تماما كمن ينتظر أن يجني العنب من شتلات الموالح، كيف يخرج من بين ابناء الكفر المتاعيس مخلص معه مفاتيح المطر؛ يجعل المحصول يزداد والماء يربو فوق التلال وينبت الجميز والتين والبلح في ايام قلائل.
عاد عقلي إلى الناس حينما حملوني في الهبوط كما حملوني في الصعود.
ضحكت كثيرا وأنا اسمع الكبير يقول:
للعلم قوة فائقة، وضحكت أكثر حين استشهد بأن من احضر عرش بلقيس عالم وليس جني.
جلس بين دفتي عباءته بزهو كطاووس وقال: ولدي جاء بالعلم الذي به سنكون ونكون فلنصبر معه كما طلب الخضر من نبي الله موسى.
نظرت ولم انبس. قالوا: وقار العلماء.
رفعت بصري إلى سقف المندرة قالوا: تأمل الفقهاء.
وددت لو انفجر فيهم:
هل تعلمون ما هي الحقيقة الوحيدة هنا؟ انني أحبها.
لم لم تقيموا لهذا الحق ميزانا واحدا؟
لأنه.. فيما يبدو لن يملأ جيوبكم بالمال ولا صوامعكم بالغلال.
قوم بدائيون؛ ينمون في الظل والشمس مثل الصبار
لم حكمت علينا أن نقطن نهاية الخط يا أبي؟
منه نبدأ وفيه ننتهي. كرهت أهله بقدر حبي لهم.
نهاية الخط قدر لا فكاك منه؛ الحنين يأخذنا إليه كلما جرفنا القطار شرقا وغربا، ولما نعود نلعن فقر أهله وسلبيتهم وأحلامهم المستحيلة. فلم يبق في نهاية الخط غيرها.
تمنيت لو غيروا الموضوع؛ ماذا لو طلب أحدهم رؤية الشهادة؟ ثم تذكرت انهم لا يجيدون غير الكلام فلو حدث ذلك ساعطيهم أي ورقة، فهم مهيئون الآن لتصديق كذباتي كلها.
تغير الموضوع من تلقاء نفسه حينما طلب مني أبي أن ابارك لشيخ الخفراء على زواجه الحديث. - ممن؟
- منها!
وجدتني اقف بينهم لاعلن بكل بساطة أنني كنت أرسب كل عام ولم احصل على اي شهادة.
تركتهم مشدوهين وخرجت أركض ملء اقدامي علني الحق بالقطار العائد…
أ. سنية أبو النصر
ياحرام… الناس اتصدمت…
طب هقول رأي
القصة جميله جدا وبجد خطفتني… مرادفات القصة والسلاسه في السرد…عجبني…والنهاية فجأتني…
بس الحكي كتير والوصف… وكمان الفكرة قديمة مابقتش موجوده الكفر والشنطه والناس مستنيه علي المحطه… مبقاش حد اصلا مهتم بحد…
أ. محمود حمدون
” نهاية الخط “
النقد في صورته النهائية ولو اتشح بنظرية من هنا أو هناك , هو ذائقة أدبية شخصية للقارئ , قدر استطاعته يتحلّي بموضوعية وبعقله يحاول أن يقرأ ما بين السطور , حتى لو كان خافيًا على كاتب النص الأصلي .
قرأت ” نهاية الخط ” مرتين , الأولي سريعة والثانية على مكث , لا أخفي أني استمتعت باللغة السردية وإن كانت بعض من مفرداتها ريفية كانت تستدعي وضعها بين علامات تنصيص , لكنّي توقفت أمام عبارة بمنتصف النص (ضحكت كثيرا وأنا اسمع الكبير يقول : للعلم قوة فائقة، وضحكت أكثر حين استشهد بأن من احضر عرش بلقيس عالم وليس جني. )
هي عبارة كاشفة عن قيمة العلم وأهميته في رقي المجتمع , هي دافع وراء وقوف جميع أهل البلدة خلف البطل للتغرّب لطلب العلم علّه ينقلهم من حال لآخر , هي السبب وراء احتفاءهم به عند عودته ومن قبل توديعه عند نهاية الخط في البداية , على أن القاص , استغرق في سرد تفاصيل كثيرة تتعلق برحلة السفر وبخل على القارئ بمعرفة من ” هي ” تلك التي ثار وماج بنهاية قصته على القوم عندم علم بزواجها ؟ كما تجاهل شغفنا في معرفة سبب فشله في طلب العلم ؟أهو تقاعس أم رهان في غير محلّه من أهله و ذويه ؟!
تركنا في مهب الريح وانطلق يسابقها ليلحق بآخر قطار ..
القاص يملك مهارة السرد كما ذكرت , ماهر في مغافلة القارئ وغلق القصة كما يراها هو , تاركًا للقارئ عصبية تأخذ بخناقه .
أ. فتحي محمد علي
قصة مركبة الاتجاهات.
هادفة ترمز لتداخل اعتبارات لدى العامة.
جميل توظيفك الجانب الساخر كوسيلة فنية.
جميل استخدام التشويق لتدرج المتلقي مع الفكرة والهدف المرجو.
جميل مزجك بين السرد والحوار لاسيما الحوار الداخلي داخل البطل.
الفاظ سلسة جزلة وعبارات رصينة وبيان خصب.
اللغة ممتازة نحوا وصرفا.
تحياتي.
أ. هاني موسى
هذا العمل القصصى شيق سرده ماتع يحمل بين طياته الكثير من الرسائل كتب بحرافية ولغته جيدة..ولكن أنصح الكاتب بأن هناك جمل مكررة وحشو زائد والتكثيف والاختزال أمر مهم هنا
٢/..الوصف الزائد هو أقرب للعمل الروائى وليس لفن القصة القصيرة
٣/ هل هذه القصة تناسب هذا العصر أم أنها كتبت من عقود طويلة وقدمها لنا الكاتب الآن ؟! فعصر أحمد أفندى المتعلم الوحيد فى القرية وهالة التوقير للمتعلمين انفض سوقه وربح من ربح فيه
..يمكن للكاتب أن يجعل قصته تناسب العصر بطريقته فهو يمتلك بجدارة مقومات الإبداع..وفى النهاية أتمنى لكاتبنا كل التوفيق والنجاح إن شاء الله
أ. ميرفت البربري
يالحظها العاثر احبت فاشل وتزوجت جاهل..
للسكنى في نهاية الخط رمز لتأخر قطار التعليم الذي نعاني منه في ترتيبنا الدولي..
القصة جميلة والكاتب يملك ادواته
فقط كانت تحتاج لتكثيف أكثر
كل امنيات التوفيق للكاتب
أ.زين ممدوح
سرد رائع وممتع،يؤكد كما قال أستاذ حمدون على أهمية العلم وفضله،
لقد فاجئنا أنه لم يحصل على شيء.
ليته منح الأهل الشهادة التي ينتظرونها
وقال لقد ربحتم اليوم علما
لكني خسرت حياة كنت أعتقد أنها ستولد الآن
هأنا سأعود من حيث أتيت
تحياتي وتقديري
لصاحب /ة القصة
أمتعتنا !
تعليق الأستاذ إبراهيم معوض صاحب النص
خالص الشكر والتقدير لكم جميعا اساتذتي الكرام..
سنظل نتعلم ما دام في العنق نبض.. وشرف لي أن تناولتم قصتي (في نهاية الخط) بالنقد والتحليل..
فما امتع ولا أجمل من أن تكون كلماتي المتواضعة تحت أبصاركم وبين أيديكم..
شكرا جدا جدا..
والشكر موصول للقائمين على الصفحة الراقية والنافذة الرائدة.
شكر خاص وتقدير كبير لصديقي ومعلمي محمد كمال سالم..
تحياتي لكم وخالص مودتي
إبراهيم معوض
التعليقات مغلقة.