قلب صخري قصة قصيرة بقلم /عصام الدين محمد أحمد
أبحلق في وجه أمي ، يتجسد الزمن في تجاعيد التراكُم، تسبح عيناها في اللاشيء ، يتماوج قدها المنثني مع اهتزاز أحبالها الصوتية، أناغيها بالقول :
وحدي الله .
تتمتم بهمهمات غير جلية لتقول :
الزمن ” هسترياً “
يعتورها صمت مُفزع .
أخاف عليها السرحان .
تعود إلى لحظات تؤرقها :
“يضجع في وهن ، ينعي وجوده بدنو الأجل ، يحتار في تفسير رؤياه، يناوشه شريط حياته القصير، يطبطب على وجهي بيد واهية ، أثقلها التعب، يقول مُتمهلاً :
ستتعبين، فالأولاد مازالوا صغارا، وطريق تربيتهم محفوف بالمكاره .
كثر الذهاب للطبيب، ولا فائدة تلوح في الأفق، وفي مستشفى العجوزة نصح الطبيب:
خذوه للبيت أفضل .
وفي الطريق يتلو الشهادتين .
غيوم صراخها اكتنفت سماء الجيزة.”
أحس بوطأة معاناتها ، تترقرق دمعات على خديها ، أزمع التسرية عنها :
أتذكرين ” رتيبة” ؟
تنطق بصعوبة :
جبل الأحزان .
أتمنطق الحكمة :
بل مُرتزقة الأكفان .
تأمر في حزم :
اسكت يا فيلسوف الغبرة .
أذكر مأثورتها وكأنها حكيمة البشر:
تعلقُم بلح النخيل .
ترثيها :
” تركها زوجها وحيدة، تـُناطح الملل والعوز، تسكب مياه الوجه على عتبات أهلها الأثرياء لسد حاجة البطون، شقاء ونفسية تعبانة.”
تزوج أبنها البكري القاهرة ، مارس جميع المهن التي لا تخطر على بال أحد، ليتم تعليمه، افترسته القاهرة بمخالبها التي لا ترحم ، عجنته في تربة الثمار الشوكية.
أرنم بعضاً من غناءها :
“مال الولية نشعها مايل
مالهاش ولد بين الرجال شايل .”
أحيانا تجهش بالبكاء دون مقدمات ، تدفن رأسها في عبها.
تجبر يداي ظهرها المتوكأ ، تبعدهما بيديها، يرتجع جسدها ، لن يُـفيد معها الكلام ، هكذا أسررت لنفسي! أجلس قبالتها ، أستظرف القص :
ذهبت لرؤية مولد سيدي أبي القاسم ، هرج ومرج يعُمان الرواد ، بائعو ” العنادى” وسلاسل الفضة يصيحون على بضائعهم ، يلتف حول مقامر النرد الصبية ، يكتظ سرادق ” المنى فاتورة” بالمُتفرجين.
أهرع إلى لوحة التنشين ، أمسك بالبندقية ،أتمثل ” البومب ” نثريات التأزُم ، أرشق الكبسولات الثلاث في قلوب نساء اللوحة ،يرفض صاحب اللوحة استمراري في اللعب .
يسترعى انتباهي زحام شديد ، أقترب مُستكشفاً الأمر ، يسد الباب أفندي مائع يجمع المحصول ، ألامس – بعد جُهد جهيد – خشبة المسرح لصيقة الجدار الجيري، تتمايل راقصة مُكتنزة في غواية ، ينفعل لابس الجلباب ذي الأكمام الفضفاضة ، يرفع خرقة الرقص عن جسد عار ، تستره نتوءات اللحم،،يزعق مُنبهراً :
القحبة لحمها كالمهلبية يا ” بوي “
تنفرج أساريرها لتعلق :
“حاسب عليها يا مرقصها
مالهاش ولد أوعى تعريها . “
تنغرس في شبق الشقاء :
” تعجن دقيق القمح في بطن الماجور الضخم، تتفل المقارص بالردة ، تقرصّ أرغفة العجين ، تقـُب الأرغفة بأيادي الشمس ، تبززها بعود البوص، يشتعل الوقيد المنثور في موقد الفـُرن، تتأجج النيران بغـُبار النشارة، تعمم رأس ” البشكور ” بخرقة مُبللة ، تمسح أتربة بلاطة الفـُرن ، زمهُر الفرن، تقذف الأرغفة بالمطرحة فوق البلاطة، تحمر أوجه الأرغفة ، تسحبها بالبشكور، ترصصها على طبق الخوص، تتوالى العمليات إلى أن تنتهي من الخبيز .
تكشط ” اللاصة “من أرضية الزريبة ، تغطيها بالأتربة الجافة المخلوطة بالقصل ، تهرول إلى الطبخ ، تشغل غسالة الموتورالزاعق دوما، وفي المساء ترتق السراويل الممزقة.
ادّخرت القروش والجنيهات، زوجت بناتها الثلاث، نحلت عافيتها.”
يلازمها وجع عظامها منذ سنوات، واليوم أشتد الوجع، أهرول يمينا ويسارا كالمعتوه، تصرخ، يصيبتي الجنون.
ماذا أفعل يا ربي؟
لا أقدر على حملها، أتلقن لأخي الطبيب ذائع الصيت ، بوق الهاتف يعلن :
لا أحد بالمنزل .
أسقط فاقدا الوعي، أصحو على هزات يديها الحانية .
صوتها يرتل:
الغائب حجته معه يا وليدي.
ربما سرقته سِكِّينة المجد!
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.