قناديل البحر .. من يوميات الحجر الصحي
قاسم المحبشي
ثمة أشياء واحداث ومواقف كثيرة تمر في حياتنا دون أن نعيرها اهتمامنا حينما نراها ونخبرها للمرة الأولى، لكنها حينما تعود وقد تغيرات الأحوال والأمكنة والسياقات والظروف تجعلنا نراها بعيون أخرى وكأنما نكتشفها اكتشفا جديدا. وهذا نزعة متأصلة في الطبيعة الإنسانية التي تغيب عنها اقرب الأشياء حميمية لها وتحضر أبعدها عنها ومن هنا تأتي الحاجة الماسة للفلسفة لكي نرى ما نعيشه ونشاهده كل يوم في حاتنا بحسب جان جاك روسو. والنتيجة النهائية للثقافة، ثقافتك وثقافتها وثقافة كل إنسان بما هو كذلك هي مجموع الصور والأفكار وردود الأفعال والاستجابات التي توجد في داخل كل منا في ذواتنا الواعية وغير الواعية، فلو لم يكن في ذاتك وفي هذه اللحظة صورة وشكل من ردود الفعل التي يسمونها “القدرة على قراءة اللغة” فإنك لن ترى على هذه الصفحة إلا خربشات سوداء وإشارات ورموز مرسومة على شاشة زرقاء لا معنى لها، ولا قيمة غير أنه بسبب تلك الخبرات المكتسبة من التجارب المتكررة ومن خلال التربية والتعليم والتعلم والحياة الاجتماعية، تمتلئ روحك بمشاعر مختلف لدي رؤيتك صورة أو سماعك كلمة أو معزوفة موسيقية وتحس بالهيبة والإجلال والخشوع عند سماعك تلاوات مرتلة من القرآن الكريم، وتثار في دخيلتك فيض من المشاعر السارة والمفرحة إذا ما قرأت جواباً من حبيب غائب، وكثيراً ما ينتابنا الحزن والحسرة لقراءة مأساة إنسان وعادة ما نحس أنفسنا مفعمة بمشاعر لذيذة ممتعة عندما نقرأ نصاً جميلاً أو ننصت إلى كلمات مثيرة ومدهشة ومرهفة.. الخ وهكذا هي الكلمات، دائماً ما تصيبنا بسهامها وتنفذ إلى أعماق أعماقنا وتهز جوارحنا بعنف وتثير فينا أمواجاً عاتية من العواطف والانفعالات المتناقضة وذلك بقدر ما تحمله من معاني ودلالات ورموز وإشارات، وبقدر ما نمتلكه نحن من قدرة على استقبال وادراك وفهم وتأويل واستجابة لرموزها وأسرارها ودوالها ودلالاتها ، فاللغة و الكلام هو الذي يشكلنا ويشكل ثقافتنا وأفكارنا وقيمنا ومعتقداتنا وأحلامنا وأوهامنا ففي حياة الإنسان لا شيء خارج اللغة. تداعت تلك الأفكار إلى ذهني وأنا انظر إلى صورة قناديل البحر التي وصلتني قبل قليل من شخص حبيب عبر الواتساب. قناديل البحر يا الله ما أجملها
في ساحل البحر العربي (ساحل العشاق)
الذي كنت ازوره صباحًا ومساءا ومنتصف الليالي القمرية، إذ أقيم هناك في منزلي الخشبي المحاذي للساحل بكورنيش خور مكسر. فماذا فعلت بي هذه الصورة؟ انها جعلتني -وأنا في محجري الصحي على بعد خطوات من الاهرامات العظيمة في الجيزة الحانية – جعلتني استعيد تلك الذكريات الجميلة التي كانت في يوم من الأيام هناك مع صدفات البحر وقناديله وهسهسة الأمواج وفرح النوارس في صباحات عدن الآسرة. كنا نتفق في المساء أنا وأفراد العائلة على برنامج جديد لفجر كل يوم. ننام مبكرًا ونصحو مبكرًا لاداء الصلاة التوجه إلى الشاطئ قبيل شروق الشمس وهناك نركض حفاة الأقدام لمدة نصف ساعة ثم نبدأ مسابقة اكتشاف الأرزاق إذ يقوم كل واحد منا بجمع صدفات البحر الملونة ووضعها في علبة بلاستيكية وبعد نعود كل بما جمعه إلى البيت ونعرض غنيمتنا على الوالدة اطال الله عمره وأحسن خاتمتها وهي تقوم بإحصاء الصدف التي تم جمعها فمن كان لديه عدد أكثر تمسح على رأسه وتباركه وتقول له: (بؤركت رزقك وافر) كان هذا في أيام السنة قبل رمضان وبعده. أما في رمضان فتكون زيارة البحر قبل الإفطار بساعتين. كنت اذهب أنا وأحفادي واحمل أصغرهم على ظهري وهو يقبض بفروة رأسي ونردد أغنية البحر الأثرة ( جئناك يا بحر العرب أنا وقسومي وآلاء) أو يا قناديل بحري جاءك أوسي وهودي. وغير ذلك من الترانيم المحببة للأطفال الصغار. ذات رمضان ذهبت لوحدي وهناك وجدت حجرة من احجار البحر تشبه التحفة ولكنها كبيرة وثقيلة فرحت بها وحملتها على عاتقي ومشيت متثاقل الخطى وقد انكهني الجوع والظمأ فأحسست بدور كاد يوقعني أرضا ولكنني تحاملت على نفسي حتى أوصلت حمولتي إلى قرب عتبة منزل فرميتها وتنفست الصعداء لكن خارت قواي الجسدي وكدت الوعي فأسندت ظهري إلى جدار المنزل وطرق الباب بصعوبة فإذا بزوجتي تفتح وتراني بحالة يرثى لها وأنا أشير لها إلى الحجر البحري أقول لها ادخليها البيت. فردت عليّ بمثل صادم (يا ما جاب الغراب لأمه!) ادخل أنت والحمد الله على السلامة! نشوف ماذا جرى لك؟ خلي الحجر في الحوش. صدمتني بهذه الكلمات اللاذعة الحارقة هههههههههههههه احسست حينها بإهانة بالغة ولكنني الآن أتذكرها وأنا اموت من الضحك . ومن حسن الحظ أن الدكتور محمد كان معزوما لدينا ففحص حالتي وقال عندك هبوط بالضغط والسكر افطر حالًا.وأردف الصائم لا يحمل الأحجار الثقيلة قبل الإفطار. ومن حينها تعلمت هذا الدرس الطبي البالغ الأهمية والمعنى. ولقناديل البحر حكاية أخرى.
التعليقات مغلقة.