قهوة المساء : الحب الضائع بقلم الأستاذ داوود الاسطل
يجلس على شرفته ، يحتسي فنجان قهوته المفضله ، وهو غارقٌ في الذكريات ، كأنه يراها أمامه ببراءتها ورشاقتها ، تلهو خلف الفراشات الجميلة .
كم هي الحياة قاسية !
يعيش حالة من الاضطراب العاطفي ، لم يكن يوما متذوقا لعشقٍ حقيقي ، يتصارع مع ذاته ، إنه يفتقدها بالفعل ، لم تكن فائقة الجمال أو خارقة الذكاء ، ولم تكن قريبة ، ولم يحدث لقاء ، لم يعانقها يوما ، لم يُقبِّلها ، غابت عنه كثيراً ، وابتعدت ، لم يكن يعلم بأن قلبها لازال نابضاً بحبه .
وفجأة يثور البركان من جديد ، تريد تحطيم القيود ، يمامةٌ حبيسةٌ في قفصٍ مصنوعٍ من الصُلب الخالص ، لا تستطيع ، جسدها مقيد ، وروحها هائمة ، تلتقيه في كل لحظة ، في الحركة ، في السكون ، في صحوها وفي نومها .
ينتابها الجنون ، كرقراق النسيم يداعب الغيوم ، والورد ينتظر سُقيا السماء .
يأخذ نفساً عميقاً ، تسمع البلابل تنهيدته ، لا يسمع صوت فيروز ، لا يرى زهر اللوز ، إنها في كل مكانٍ حوله ، صوتها ، عطرها ، والتفاصيل الجغرافية التي أرهقته ، وكتاب التاريخ الذي لا يرحم ، والترانيم ، والمزامير والعادات والتقاليد والكتاب المقدس .
ترتفع الشمس بين شفتيها ، تلامسه أشعتها الذهبية ، تُدفيء قلبه ، وتحترق .
وتغيب شمسه ، لتسدل الستار ، ويهمس لها في أذن البحر فتغفو ، ويبقى هائماً مشردا .
إنها البعيدةُ بُعدَّ المشرقين ، القريبةُ قربَّ الوريدين ، لا تفارقه ولا يفارقها .
يتذكر اللحظة الأولى التي خرجت فيها من بيت أبيها عروساً ، قانون القبيلة ، ينظر إليها من حيث اللامكان ، يحترق ، ونفس القانون يمنعه من الاقتراب .
وكلما أزهر اللوز يقف محتسياً قهوته تحت زخات المطر المسدولة خيوطه من نبع عشقها المتدفق ، يحذوه الأمل كلما لاح طيفها أمامه .
وهي تراقب قوس قزح ، بألوانه الزاهية فترسل له الحنين عبر أثيره المتلاشي ، تحاول التمرد ، الانعتاق ،
وشجر اللوز يكبر عاماً بعد عام .
وفي ليلة صيفية زاهية ، يشهد القمر لقاءهما ، يتعانقان ، يتعاهدان ، تحكي عيونهما ألف حكاية وألف عبارة ، ولا ينطقان .
تهرب منه اليه ، فيهيم في صحراء التيه ويغوص في رمالها ، ثم يصحو من نومه ، يمتطي جواده الأبيض ، ويكتب على وجه الثلج ، أنا الحب الضائع .
التعليقات مغلقة.