قَرارٌ صَعبٌ بقلم حبيبة سلام
__
داخِل المستشفىٰ الجامعي، اتَّخذَ لِنفسِهِ مِقعداً في ذلك المكان الذي اعْتادَ أنْ يتردَّدَ عليهِ مِن وقتٍ لآخرٍ للتبرُّعِ بدمِهِ، خاصَّةً وأنَّ فصيلتَهُ النَّادِرةَ غيْر مُتوفِّرةٍ في بنوكِ الدَّمِ ِ، فكان لا يبْخَلُ بِها علىٰ مُحْتاجٍ أمَلاً في بَثِّ الْحياةِ مِن جديدٍ في شَرايينَ كادَتْ أَنْ تَتَعطَّل عَن الْعَملِ…
هُناك في الغُرفَةِ المُجاوِرةِ يَرقُدُ شابٌّ في مِثْلِ عُمُره تقْريباً يُصارِعُ الْمَوتَ انْتِظاراً لِدُخولِ غُرفَةِ العَمَليّاتِ لإِجراءِ عَمَليَّةٍ خَطيرَةٍ…
تَدخُلُ سيِّدَةٌ شابةٌ وما أَنْ وَقَعَت عَيناها عليْهِ حتَّىٰ شَهَقَت، وتسمَّرَت في مكانِها…
أَيُعْقَلُ هذا؟!.. مِن بيْنِ كُلِّ النَّاسِ كانَ هو تَحْديداً آخِرَ مَن يَخطُرُ بِبالِها أَنْ تَرىٰ في ذلِك الْمَكانِ؛ فقَد افْتَرَقا منذ سنواتٍ بَعْد إِصْرارِ والِدِها علىٰ رَفْضِهِ لِأسبابٍ لم تقْتنِع بها، لكن لمْ يَكُن لدَيْها خيارٌ غيْر الانصياعِ لِضُغوطِ والِدِها..
أمّا هو فلَم يَجِد بُدّاً مِن السَّفَرِ ٍلِاسْتِكمالِ دِراسَتهِ في مُحاولةٍ لِلنِّسيانِ والخُروجِ مِن مِحْنَتِه، لكنه أبداً لم يَنْسَها…..
انتَبَه علىٰ صَوتِها، فإذا بِها واقِفَةٌ علىٰ بُعدِ خُطواتٍ قليلةٍ مِنهُ..
الآن فَقَط، ولِلمرَّةِ الأُولىٰ يَراها مِن جَديدٍ.
لم يُصدِّق نفْسَهُ.. فَرَكَ عيْنَيه في مُحاولةٍ لِلتَّأكُدِ.. نَعَم!
إِنَّها هي؛ بِشحْمِها ولَحْمِها؛ التي أمْضىٰ مِن عُمْرِهِ سَبْع سنواتٍ في الغُربَةِ في مُحاولةِ نِسيانِها فلم يَزِدْهُ ذلِك إلَّا تعَلُّقاً بِها…لم يستَطِع إخْفاءَ دَهْشتِهِ و فرحَتِهِ بِلِقائِها.. أَيُعْقَلُ هذا؟!
بعْد كُلِّ تِلكَ السَّنواتِ تَلْقي بِها الصُّدفَةُ في طريقِهِ بَعد أَن ظنَّا الَّا يلْتَقيانِ؟!…
لحَظاتٌ قليلةٌ امتَزَجَ فيها الحَنينُ بِالأمَلِ فشعُر بِالدَّمِ يتَدفَّقُ في عُروقِهِ وكأنَّما الرُّوحَ قد عادَت إِليهِ مِن جديدٍ فها هي تَقِفُ أمامَهُ ولَن يَدَعَها تَضيعُ مِنْه مرَّةً أُخرىٰ…
وبيْنَما يسْتَعِدُّ الطبيبُ لِسحْبِ الدَّمِ.. يطلب منه الانتظار دقيقة كي يتحدث إليها…
_ أمنية! أيعقل هذا؟! ماذا تفعلين هنا؟!
.. زوجي في حالة خطرة و يحتاج إلى نقل الدم. لكن فصيلته غيرُ مُتوفِّرة. علِمتُ الآن أن هناك متبرعا فجئت لِأشكُرَهُ
تُزلزِلُ كيانَهُ المُفاجأةُ! اَلآن تحْديداً يلْتَقيان؟! ومِن بيْنِ كُلِّ البَشَرِ توافِقُ فَصيلةُ دَمِهِ فَصيلَةَ زَوْجِها؛ ذَلِك الرَّجُلُ الذي حالَ بيْنَهُ وبيْنَها؟!
يتَصَبَّبُ عَرَقاً وتَتَسارَعُ ضَرَباتُ قلبِهِ ويشْعُرُ بِضيقٍ في التَّنَفُّسِ…
في دقائقٍ معْدودَةٍ، يحْتَدِمُ بِداخِلِهِ صِراعٌ شَرِسٌ بيْن ضَميرِهِ وطَبيعَتِه البَشَريَّةِ. هو الذي لمْ يَتأخْرْ يوماً عَن مُساعَدَةِ مُحْتاجٍ يجِدُ نَفْسَهُ الآن مُتورِّطاً في مُحاوَلةِ إِنقاذِ ذلِك الشَّخْصِ الذي سَرَقَ حلمَهُ واغْتالَ فَرْحَتَهُ.. يوسوِسُ لهُ شَيْطانُهُ أن يتْرُكَهُ يواجِهُ مَصيرَهُ، ويُراوِدُهُ بَريقُ أَمَلٍ فرُبَّما لعِبَ القَدَرُ لعبَتَهُ وأَعادَ إِليْهِ حلْمَهُ الضَّائِعَ..
تَعْوي الأفْكارُ في رأْسِهِ الذي كاد أن ينفجر فهو لا يَبْخَلُ عليْها، ليس فقَط بالدَّمِ لكِن أيْضاً، بالرُّوحِ إِذا لزِمَ الأمْرُ ولكِنَّهُ بَشَرٌ..
علىٰ الفَوْرِ ينْهَضُ لِمُغادَرَةِ المُسْتَشفىٰ لكنَّه يُطالِعُها أَمامَ بابِ الغُرفَةِ. ينْظُرُ إِليْها فإِذا بالدُّمُوعِ قد غَطَّت وجْهَها وبَدا عَليْها الحُزْنُ والِانْزِعاجُ الشَّديدُ، فالوَقْتُ ليْسَ في صالِحِ زَوْجِها.. تتجه باكية نحو غرفة زوجها، بينما هو يضرِبُ الحائِطَ بقوة بكِلتا يَدَيهِ….
حبيبة سلام
التعليقات مغلقة.