قَريتُنا الصغيرةُ و جدُّنا الكبيرُ بقلم عبد الرحيم خير
رُبّما ليست مصادفةً أن يُبنَى مقامة على مشارفِ قريتِنا من ناحيةِ اليمينِ، ارتفعَ البناءُ فوق تلك الصخرة العالية قليلا عمّا حولها، تتوسّطُ البناء قبةٌ مستديرةٌ يعلوها هلالٌ صغير، يتزين تابوته الأخضر بحلل ملونة أهداها له الزائرون، ويحاط المقام بقفص حديدي تزينه الورودُ والمباخرُ، وتتدلى منه أشرطة ملونه وضعها العابرون، تفوح روائح المسك من جنبات المكان الذي تزينه الشموع والأنوار الخضراء….
مقامٌ كبيرٌ مرتفعٌ كأنّه يشيرُ إلى مكانةِ صاحبه “الشيخ سلام” هذا القطب الكبير، الذي سميت القرية باسمه قرية الشيخ سلام أو “الحاج سلام”
كما هو مَشهور، قرية جبلية تابعة لمحافظة قنا مركز فرشوط، ذاع صيت القرية وانتشر اسمها بين البلاد، نظرا لطبيعة أهلها وما يتميزون به من صفات كالكرم والشجاعة والرجولة وحبهم لإكرام الضيف واحترام الكبير والوقوف إلى جانب الضعيف والمظلوم، جميعُ أهلِ القرية يعتبرون الشيخ” الحاج سلام” جدّهم الأكبر، فهم جميعا أبناء عمومة أو عمات أو أصبحوا كذلك بالمصاهرة والنسب…..
اِختلفت الروايات حول نسب الشيخ سلام فقالوا أنه “الشيخ سلام” شقيق شيخ العرب همام ولعل من قالوا ذلك استندوا إلى أن مقرات لشيخ العرب همام ومخازن واستراحات كانت توجد بقرى الحاج سلام ونجع تركي والعركي لكنه رأي ضعيف لم تدعمه الأدلة التاريخية، وقال آخرون عن الشيخ سلام : ( إنه غفير الدارين وأسدُ رفاعتين الشيخ الحاج سلام الرفاعي من أحفاد الإمام رفاعه الحسن المكي الحسينى) ولعل أصح الأقوال في نسب الشيخ هو ما ذكره الدكتور محمود عبد الوهاب مدني في كتابه ” دليل منطقة آثار نجع حمادي ” والذي قال فيه أن صاحب المقام هو “الشيخ سلام الأمير الحاكم أمير خفاجة سلام بن محمد بن سليمان بن فايد” والذي توفى بصعيد مصر سنة 1394م .
كان رجال القرية القدماء يطلقون على صاحب المقام اسم ( البطل ) أو ( الأسد ) لما له من الكرامات المعروفة والتي تشهد على صدق ولايته وعلو مكانته.
يَظهر المقام في أول طريق القرية الذي يقسمها نصفين؛ نصف إلى يمين المقام ونصف إلى يساره ويمر بينها الطريق الذي يتصل في آخره بالطريق الصحراوي الكبير.
يبدو المقام عاليا عند مدخل القرية كأنه يراقب المارة ويحرس مدخلها من الأعداء واللصوص، هكذا يردد أهل القرية في كل حادثة تحدث بينهم دون وقوع خسائر أو أضرار يقولون : القرية يحرسُها جدُنا الكبير، رواياتٌ وأحاديث عجيبة يتناقلونها عن كرامات الشيخ تصل أحيانا لحد المبالغة والتهويل، يصدقها بعضهم ويكذبها آخرون؛
من هذه الكرامات التي رويت قديما وشهدها وحكاها أجدادنا وتناقلتها الألسن عن الشيخ أنه
في القديم ولم تكن الكهرباء قد دخلت القرية بعد، ولصغر حجم القرية وقلة عدد سكانها فقد استثناها المسؤولون من تركيب الكهرباء، ومرت العربات الكبيرة التي تحمل آلات التركيب وعمدان الإنارة إلى قرية مجاورة، وبجوار المقام انقلبت أولى السيارات التي تحمل معدات الإنارة وأسلاك الكهرباء، ولم يستطع المهندسون والعمال رفعها أو تحريكها حتى بعد الاستعانة بآلات الرفع الكبيرة، كرروا المحاولات لكن دون فائدة، اهتدوا في نهاية الأمر أن لهذه القرية سر عجيب، وأنها قرية مباركة ولايجب استثناءها، أدخلوا الكهرباء إلى القرية وبدأوا التركيب فتيسرت أمورهم ومروا بسلام دون ضرر أو خسائر، ظل الناس يرددون الحكاية بينهم ويقولون: أن هذا الفعل من كرامات جدهم الكبير “الشيخ سلام”
أمام مقام الشيخ باحة كبيرة يجلس فيها الزائرون والمريدون يقيمون فيها مجالس الذكر. وبعضهم يصلي عندما تفوته المكتوبة، فرشت الباحة الأمامية للمقام قديما بحُصر الحلفا المصنوعة يدويا والتي تكون غالبا مقلوبة، وتقليب الحصر هي عادة يفعلها بعض الناس انتقاما ممن ظلمهم أو تعدى على حقوقهم ، يقلبُ حصر الباحة على ظهرها كأنه يستعدي الشيخ ويثير غضبه لينتقم له ممن ظلمه عادات قديمه ورثها الأحفاد عن الأجداد. اندثر بعضها في زماننا ومازال البعض يمارسون بعضها ….
بجوار المقام بئر وحُجْرة صغيرة يستحم فيها الأطفال والزوار وخاصة المرضى بِمَسّ أو سحر يعتقدون البركة في ماء البئر، وبجوار البئر
“مزائر” (بناء تخزن فيه مياه الشرب المستخرجه من البئر ) يشرب منها أهل القرية والمارة والزوار، وبجانب المزائر حوض كبير للمياه تشرب منه الطيور والحيوانات، في الماضي كانت توجد شجرة كبيرة تزينها ورودٌ بيضاء لها رائحة جميلة ومنظر حسنٌ أخّاذ كان أهل القرية يسمونها (الشمامة) يقطفون منها الورود ، يتبادلها المحبون وتهدى للمارة والعابرين.
يحتفل أهل القرية ومحبي الشيخ من البلاد المجاورة بموْلِده بجوار المقام في أواخر شهر سبتمبر من كل عام فيقيمون له حفلًا كبيرًا ( مُولِدْ ) يذبحون فيه الذبائح، يبدأ الحفل بقراءة القرآن ويتوسطه المديح النبوي ويُختم الحفل بمقاطع من الأناشيد الدينية والخطب الرنانة التي يلقيها مشايخ القرية وغيرهم من المدعويين والحضور .
مجتمع القرية قويٌ وذو طبيعة خاصة تحكمه العادات والتقاليد وتسود بين أهله روح المحبة والإخاء والتسامح ؛ تراهم يدا واحدة في الأحزان والمسرات، يتشكل نسيج القرية من مجموعة متميزة من الكبراء والعلماء والمثقفين وأساتذة الجامعة والأطباء والصيادلة وطلاب العلم والمعلمين والمشايخ والخطباء والكثيرين من حفظة القرآن الكريم والفلاحين والعمال …
سادت بينهم جميعا علاقات المحبة والتسامح يَعذرُ بعضهم بعضا ويحترم الصغيرُ الكبيرَ.
في أوقات الخلاف أو المشاكل بين العائلات يجتمع الكبراء من كل العائلات المعروفين بالعدل والحزم، ترى لهم هيبة واحتراما من الجميع، يحلون خلافاتهم في مجالسَ عرفية، كأنها محاكم محلية، يلام فيها المخطئ وترد فيها الحقوق، ويعذرالمذنب ويطلب العفو والمسامحة، بعدها يعود السلام والمحبة بين الجميع .
أصبحت حكايات القرية ميراثًا لأهلها جميعا يفتخرون بها بين البلاد والقبائل تستمر الحكايات وتتجدد، وفي كل يوم حكاية يحكيها الكبارُ للصغار ويتناقلها الأحفادُ عن الأجدادِ، حكايات وحكايات وحكايات، عن قريتِنا الصغيرةِ وجدّنا الكبير.
التعليقات مغلقة.