قُــلْ .. أسمعْ “من أدب الحوار في الإسلام”
محمد إبراهيم النمر الأحد 21 / 6 / 2020
** موقف مع خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – نتعلم من خلاله هذا الأدب العالي ، وما أحوجنا إليه في زمن تغلبت فيه الأثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ،
فأمسى الحوار كما بين الأطرش والأعمى ؛ لا تسمعني .. ولا أبصرُك !!
وهو ما يوغر الصدر ويفقد الهيبة ، ويسد الباب على النصيحة ولو كانت سديدة ..
قال الله – تعالى – : ” فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ” (13) فصلت
** ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية والتي قبلها روايات تتعلق بما بين النبي – صلّى الله عليه وسلم -وبين بعض المشركين، منها ما ذكره محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة قال يوما لقريش ورسول الله – صلّى الله عليه وسلم – جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ؛ فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه. فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: « يا محمد، يا بن أخى، إنك منا حيث قد علمت من السلطة- أى من الشرف- في العشيرة وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل بعضها. قال : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : ” قلْ يا أبا الوليد أسمعْ “
** قال: إن كنت- يا بن أخي – تريد ما لا أعطيناك من المال حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد ملكا جعلناك ملكا علينا.. وإن كان الذي يأتيك رئيا تراه- أى ترى بعض الجن- طلبنا لك الطب حتى تبرأ.
** فلما فرغ عتبة . قال – صلّى الله عليه وسلم – : « أفرغت يا أبا الوليد؟ » قال: نعم. قال: « فاستمع منى » قال: أفعل. فتلا عليه النبي – صلّى الله عليه وسلم – من أول سورة «فصلت» بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( 4 )
** ثم مضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقرؤها عليه . فلما سمع عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما ، يستمع منه حتى انتهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : ” قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك “
** ثم عاد عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: لقد جاءكم عتبة بوجه غير الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا له: ما وراءك يا أبا الوليد؟
فقال: لقد سمعت من محمد – صلّى الله عليه وسلم – قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها لي، خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ.
فقالوا: لقد سحرك محمد – صلّى الله عليه وسلم – فقال: «هذا رأيى فيه فاصنعوا ما بدا لكم»
** وهنا نقف أمام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأدب النفس الكبيرة ، وطمأنينة القلب المؤمن ، وهو يستمع من عتبة إلى هذه العروض الصغيرة التي يعرضها عليه ، وقلبه مشغول بما هو أعظم ، وهي عروض تثير الاشمئزاز ، ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم – يتلقاها حليما ، ويستمع كريما ، وهو مطمئن هادئ ودود . لا يعجل عتبة عن استكمال هذه الخواطر الصغيرة . حتى إذا انتهى قال في هدوء وثبات وسماحة : ” أفرغت يا أبا الوليد ” ؟ فيقول : نعم ! فيتلو عليه الآيات .
إنها صورة تلقي في القلب المهابة والثقة والمودة والاطمئنان .. ومن ثم كان يملك قلوب سامعيه .. الذين يقصدون إليه أول الأمر ساخرين أو حانقين ..
** منهج تربوي راق وأدب عال علَّنا نتعلم منه ونتأدب به في حياتنا .. بين المعلم وطلابه .. بين الآباء والأبناء .. بين المتحاورين عموما ..
” قُــلْ .. أسمعْ ” لم يعجل ولم يقاطع ، ثم بعدها : ” أفرغت يا أبا الوليد ” والكنية عند العرب أرقى من الاسم المجرد .. صدق الله العظيم : ” الله أعلم حيث يجعل رسالته ” .. وإلى لقاء بمشيئة الله ،،،
التعليقات مغلقة.