موسوعه أدبية شاملة

teen spreads her legs for jock.https://fapfapfaphub.com

كافيتريا… محمد الخضير

249

كافيتريا


محمد خضير


تتوسط بناية الضرائب، المكونة من عدة طوابق، مربعَ المصارف التي تبتلع يومياً الأموال المتحركة في السوق، وتُلقي لمصلحة الضرائب بما يفيض عن أمعائها السائلة بلا توقف. يبدأ عمل الموظفين بداية النهار، وينتهي في ساعة متأخرة من الليل. كانت الساعات الأخيرة مخصّصة للضرائب التراكمية التي يطلب المكلَّفون تأجيل دفعها سنوات، فيما تُخصَّص ساعات النهار لاستحصال الضرائب العاجلة على العقار والعجلات والحيوانات وسواها من السلع المنزلية. وكنت على عِلم بأنّ ساعتي الضريبية معلّقة في الكافيتريا التي تحتلّ قلب البناية الملتوية كأفعى زجاجية، ناتئة الحراشف؛ حيث ينتظر “المضروبون” دورهم لدفع الضريبة، أو طلب تأجيلها.
شعّت حراشفُ البناية بضوء كاشف لفضاء المربّع المصرفي، بينما قُذِفت المرابع السكنية حولها، على امتداد الأضواء الممتدة حتى حدود النهر. كنت أنوء بضريبتي المتراكمة، حينما احتواني المصعد الداخلي ونقلني فوراً إلى طابق الكافتيريا المتوسط بين الطوابق المؤشرة على لوحة المصعد. دلفتُ بشعور ممزوج برهبة الحواسيب المصطفّة في ركن الكافتيريا الواسعة الأرجاء، ودخان الشيشات المعزولة في كابينات الركن المقابل، وألتففتُ حول مناضد البليارد المصفوفة في الرحبة الوسطى. كان الجوّ الداخلي الداخن، الوامض بشاشات الحواسيب، محفِّزاً للبحث عن قرينٍ لي بين “المضروبين” الغارقين في أزمنتهم المؤجَّلة. وجوه محتقنة، أيدٍ ترتفع آلياً بخراطيم الشيشات، همسٌ بكلمات مبعثرة؛ وسرعان ما لمحتُ رجلاً مضروباً في الصميم ينتظر دوره الذي سيُعلَن عنها حسب تسلسل المعاملات الضريبية.
لم يتضايق الرجل من إقبالي عليه، وسمح لي بمشاركته الكابينة المعزولة بلوحين زجاجيين، يتصلان بالواجهة العريضة للكافتيريا، المطلّة على الساحة المركزية لمربّع المصارف. بادرتُه بالقول حال جلوسي: “لولا التصاقنا بهذا المكان، لقلتُ إنّنا نسكن مدينة رأسمالية عصرية”. وضع جليسي خرطوم شيشته على حافة المنضدة بيننا، وقال مستجيباً لملاحظتي: “ذلك لأنّنا ندخل هذا المكان مرّة في كل عام”.
كان شريكي قصيراً، ضئيلاً بما يحمل من ضرائب، ولربما صبغَ شعره ثم زيّته وأهدلَهُ على متْنَي معطفه ذي الأزرار اللامعة. عرفتُهُ قبل أن أسأله إنْ كان قد غيّر عمله في تربية العجول، فنفى ذلك. قال إنّه يدفع ضريبة الحظائر أولاً بأول، إذ من غير الدفع لن يستطيع بيع عجلٍ واحد في سوق الماشية.
“التقينا العام السابق عند هذه الساعة من الليل. إذن جئتَ لتسديد ضريبة العجول”.
“لا. أنا اليوم مضروب بسبب قبر والدي”
“أوه. قبر! لم يخطر ببالي أن يُطالَب إنسان بدفع فاتورة موته”
“قبرٌ دارس. أفكّر بنقل رُفاته إلى المقبرة الجديدة”
“لعلّ معظم مراجعي الكافتيريا دُعوا لضرائب حياةٍ زائلة. هل عزمتَ على الدفع؟”
“لا. المبلغ باهض. سأطلب تأجيل الدفع عاماً آخر. يستطيع الميت الانتظار بعكس العجول”.
قهقه ساخراً، فبانت أسنانه المغلَّفة بالفضّة، ثم استمر خرطومه بنفث الدخان.
“حسناً. سيصعب علينا الدفع حين يأتي أجلنا في الساعة المحتَّمة”.
“نعم. هل جئت أنتَ لدفع ضريبة مهمّة؟”
“أنا؟ لستُ محظوظاً في إقناع المخمِّنين بتأجيل الدفع. يضربون بعصا غليظة”
“آه. تذكرتُك. قلتَ في لقاء السنة الماضية إنّك صحفيّ”
“أكتبُ مقالات في صحيفة نجمة الصباح. بعض القصص أحياناً”
“ولستَ مقتنعاً باستقطاع مبلغ الضريبة. ضريبة غير مستحقة”
“لا خيار أمامي. لم أفكّر في المساومة كما ساومتَ أنت على الموتى”.
فقدَ أعصابه، واجتاحته نوبة سعالٍ جاف. هدأ وصبّ نظرةً ثاقبة على وجهي الذي يقابله: “ما تسلسل معاملتك؟”.
أخرجتُ من جيب سُترتي قسيمة التبليغ المجعدة: “559 ب. أظنهم لن ينادونني قبل تسلسلك”.
أبعدَ خرطوم الشيشة، ونفخ في الجمر الخافت. نفثَ غيمةً كثيفة حجزته عن ناظري، واستلقى إلى وراء: “لا أشعر بحيْف. طالبوني بعشرة ملايين دينار متراكمة. هم يؤخرون الاستدعاء لأمر في حسابهم. لكنّني لا أشعر بحيْف حقاً ما دمتُ أؤجل الدَّين إلى أجلٍ غير مسمّى”.
ذكّرني الرجل بقصة كتبتُها عامداً تحت عنوان “الأجل المسمّى” سأنشرها مع عبارة موجَّهة لعملاء الكافتيريا المضروبين: “ليست الحياة، أعمالُنا كلُّها، إلا مناسبات مؤجلة. غير مسمّاة. ولو أننا حسمْنا ضريبتنا لالتحقنا بالأموات”.
فهمَ شريكي المضروب عبارتي على آجالها، وساحَ مع نفثات شيشته عبر زجاج الواجهة المضبَّبة. قال بارتخاء: “يأتي يوم لن تُؤجَّل ضريبةٌ لإنسانٍ يسكن تلك البيوت الهادئة في الأسفل. ينامون بأمان، فيما ينتظرهم حادث غير متوقع، زلزال..”
قاطعته: “انقلاب. تمرد..”
فزعَ المضروب، واعتدل مقرِّباً رأسَهُ المزيّت من عينيّ: “دعنا من هذَر السياسة. ليتني وفّرتُ مبلغ الضريبة اللعين، لأنام هانئاً مثلهم”.
دفعتْ مراوحُ الكافتيريا بكميات الدخان إلى الخارج الملبّد بالغيوم، فازدادت شكوكي من اقتراب النداء بتسلسل ضريبتي، بينما نهض جليسي حال سماعه رقم معاملته، عِبر مكبّر الصوت، وغادر مكانه كالملسوع بضربات الملايين العشرة. ناديتُ النادل وطلبتُ عشاء خفيفاً، بطاطا مشوية مع قدح عصير ليمون، لا لأشبع بطني، لكنْ لأُلهي نفسي. كان نادلاً مرِحاً، استقبلني أوّلَ دخولي الكافتيريا بكوب قهوة مع ابتسامة مشجّعة؛ وبعد أن أحضر عشاءي، سألني عن تسلسل معاملتي. أخبرته بالرقم فانحنى على الطبق الساخن وهمس: “لا تساومْ يا صديقي. لا تساوم”.
بعد خواء الكافتيريا، نودي برقم إضبارتي: “559 ب”. دفعتُ حسابي ثم خطوت متمهلاً نحو المصعد المجاور لباب الكافتيريا. لم أحفل بالمنظر الشاسع الذي يترامى تحت نظري العابر للأجواء الداخنة، وشعرتُ ببلوغ الأجل المستحقّ مع ضغطة رقم المخمِّن الموكل بضريبتي على لوح المصعد.
طالعني، بل قابلتني امرأة، وراء حاجز المكتب الزجاجي، بابتسامة ذابلة. تبلغ المخمّنة، الساهرة حتى الساعة، الخمسين من عمرها، كما قدّرتْ عيناي المتفحّصتان الوجه الشمعي، والخصلات الشيباء النافرة من حجابها الأزرق، والفم المصبوغ بدهان فاقع. نفثت المخمِّنة كلمات نعسى: “أهلاً بصديقي القديم. 559 ب. أجل. كاتب المقالات المحيّرة”.
أجبت بشفاه يابسة: “قصص”
“أحياناً. نعم. عمّاذا أحاسبك؟ ماذا لدي؟ دعني أرَ. ما الذي يعجلنا؟ أوه. ليس بالمبلغ الكبير”
“أيمكنني تأجيل الدفع؟”
“كما تشاء. لكن الضريبة ستتصاعد كنهايات قصصك. لندقّق ما نشرتَ. ها هنا القصة المسماة: رجل التوافه”
“نعم. قبل عام. لا تستحقّ المبالغة في التقدير، كما أحسب. قليلون قرأوها”
“أتظنّ ذلك؟ وصفتَ شخصيتك بالتفاهة، لكنّه يقتني التُحفَ الثمينة في بيته. غدارة عثمانية. ميزان أثري. أقداح فضة. قائمة طويلة من الأشياء النادرة”
“لا تنسَي أنّ امرأته خدعته”
“نعم. نعم. قرأت القصة بعناية. افترضني امرأته”
“أتحاسبينني على هذه الأشياء التافهة يا سيدتي؟”
“لِمَ لا؟ نحن نفكّر بالآجال المستحَقّة مثلك يا حبيبي”.
كانت موظفة تخمين الضريبة تستخدم في كلامها لغةَ قصتي، وتردُّ الصاعَ أرطالاً من السخريات والمكائد التي ملأتْ بها سجّلي على حاسوبها: “سنؤجّل المبلغ المتراكم سنة أخرى. كما تشاء. ننتظر منك قصة عن دائرتنا. لعلّ نظامنا أعجبك”.
لاحظت الموظفة وجومَ هيأتي التي أتعبَها الانتظار في الكافتيريا، فقالت: “أتفكّر في مهمّتي كما أفكّر؟ سيأتي زوجي لاصطحابي بسيارته. أتودّ أن نقلّكَ معنا؟”.
أخبرتُها أنّي أفضل المشي، وانقلبتُ على أعقابي. تحرك المصعد الزجاجي، وهبط بي بين غيمات متفرّقات لم أميّز بينها غيمةَ الكافيتريا السائحة بآجال الأحياء الغافين، المضروبين في الصميم.

التعليقات مغلقة.