” كانت أيّام ” بقلم/ ربيع دهام
اعتادت أمي، كلما همّت بالوقوف، أو الجلوس، أو إرجاع شعرها الناعم إلى الوراء، أو حين الانتهاء من تنهيدة طويلة، أن تمسح وجهها بكلا يديها
وتهمس: “يا عذراء”.
وكانت صديقتها الأقرب إلى قلبها، “أم ساجد”، والتي تشاركها صفات البساطة وطيبة القلب، تجيبها: ” الزهراء تحميك”.
أما أنا وصديقي ساجد، فلم نكن لنهتم بالعذراء أو بالزهراء. بل كان كل اهتمامنا منصبّاً على الرائحة اللذيذة الشهيّة المنبعثة من داخل جدران المطبخ الحصين هناك. أو قلعة ألموت كما كنّا نسمّيها.
وكان ساجد يحركّ منخريه دلالة الشمِّ ويسألني: ” كايك؟”.
فأحرّك أنا منخريَّ وأجيبه: ” لا. كنافة أظنّ”.
وغالباً ما كان صديقي يغلبني في معركة الشمِّ تلك، لما له
من باعٍ طويل في أمور البطن والمعدة.
وكنا نتلصّص كما كل الأطفال، من وراء باب الرواق، على أمي وأمه،
فنسمع أمي مثلاً تقول:
” كل يوم يسألني ابني جورج عن ساجد. أتعرفين؟ ابني يحبّ ابنك كثيراً”.
وتجيبها أم ساجد: ” وابني أيضاً لا حديث له في البيت إلا عن ابنك”.
فتضحك أمي وتضيف: ” كم جميلة الصداقة يا أم ساجد. أنا متأكدة بأنهما
في غاية الفرح الآن”.
فتطلق أم ساجد ضحكة من القلب وتجيب: ” وعلى الأرجح يشاهدان فيلم روبن هود للمرة العاشرة”.
وتوافقها أمي بهزاتٍ متتالية من رأسها.
أما أنا وصديقي ساجد، وللأمانة، فلم نكن نشاهد روبن هود، ذاك السارق النبيل، بل كنّا نتقمّصه.
ندخل خلسةً إلى المطبخ. نبحث عن مصدر الرائحة. نسرق ما استطعنا من قالب الكايك السّاخن المركون على المنضدة، أو
قرصين أو أكثر من المعمول، أو أي شيء نجده لذيذاً شهياً وباستطاعتنا سرقته، ونعود إلى غرفتنا ظافرين منتظرين.
نوزّع الغنيمة على جحافل الكائنات الجائعة الفقيرة الموجودة في…أمعائنا.
وبعد دقائق، كنا دائماً نسمع خطوات تقترب من الباب.
ويُفتح الباب ويطل وجه إحديهما قائلاً:
” سرقتما الحلوى يا لصوص؟”، أو ناصحاً:
“كان عليكما انتظار الكايك أن يبرد قليلاً”.
ومرّت الأيام والعمر، وكبرتُ أنا، وكبر صديقي ساجد.
وكبرتْ مسافة الحياة ما بيني وبينه.
وكبرت أمي. وكذلك أم ساجد. ورحلتا. غابتا عن هذه الدنيا.
وكم وددت لو وقفت بوجهيهما وصحت: ” لا تذهبا! انتظرا قليلاً. ابقيا هنا”.
واليوم، كلما لاحت ذكرى الأيام الجميلة في قلبي، وشممتُ رائحة البساطة.
كلما تحسست طعم الحنان، وتدفأت بالنيّات الحسنة، وبالصداقة الصدوقة، وبالبركة وبالسهل الممتع، تذكرت جملتكما الشهيرة:
“كان عليكما انتظار الكايك أن يبرد قليلاً”.
فعلاً أم ساجد وأمي. وأمي وأم ساجد. مِن دونكما صارت كل الأيام.. كل الأيام باردة.
التعليقات مغلقة.