كليمنس فون ميترنيش …
بقلم طارق بدراوي
الأمير كليمنس فينتزل ميترنيش سياسي ورجل دولة نمساوي ومن أهم شخصيات القرن التاسع عشر الميلادى وينسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في قارة أوروبا طوال الأربعين عاما التي أعقبت هزيمة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في معركة واترلو الفاصلة التي وقعت في يوم 18 يونيو عام 1815م بين الفرنسيين من جانب والتحالف الإنجليزى الألماني الهولندى من جانب آخر في قرية واترلو قرب العاصمة البلجيكية بروكسل وكانت آخر معاركه والتي هزم فيها هزيمة كبيرة غير متوقعة لقائد بخبرته وإضطر في نهايتها أن يلوى رأس جواده ويغادر ميدان المعركة وهو يقول خسرنا كل شيء إلا الشرف وعاد إلى باريس بينما كان ميدان واترلو مليئا بجثث القتلى والجرحى من الجانبين وهذا ما جعل الإنجليز يصفون فيما بعد الشخص الذي يعاني من حظ سئٍ جدا بأنه صادف واترلو وتعتبر هذه المعركة الفصل الختامي لإمبراطورية نابليون بونابرت القائد الفذ قاهر أوروبا الذي عاد إلى العاصمة الفرنسية باريس وتنازل عن العرش وتم نفيه إلى جزيرة سانت هيلينا البريطانية التي تقع بالمحيط الأطلسي وظل بها حتي وفاته في عام 1821م وقد شكلت مبادئ ميترنيش والتي تبلورت خلال مفاوضات مؤتمر فيينا مجرى الأحداث السياسية الأوروبية الأساسية في قارة أوروبا في الفترة التي أعقبته وكان هذا المؤتمر قد تم عقده بالعاصمة النمساوية فيينا لسفراء الدول الأوروبية وترأسه كليمنس فون ميترنيش في الفترة من شهر سبتمبر عام 1814م إلى شهر يونيو عام 1815م وكان هدفه تسوية العديد من القضايا الناشئة عن تفكك الإمبراطورية الرومانية المقدسة وحروب الثورة الفرنسية والحروب النابليونية وتوالي الهزائم علي الإمبراطور نابليون بونابرت والتي بدأت بالتراجع الرهيب بعد الغزو الفرنسي الكارثي لروسيا في عام 1812م الذي أدى إلى خسارة كبيرة في صفوف جيش نابليون ومن ثم حدث أيضا التراجع في شبه الجزيرة الأيبيرية وفي هذا الوقت تحالفت ضده كل دول أوروبا تقريبا فيما أطلق عليه التحالف السادس وفي العام التالي 1813م وبعد أن رفض نابليون السلام الذي عرضته عليه النمسا في مؤتمر براج الذى عقد بين يوم 4 يوليو ويوم 10 أغسطس عام 1813م خوفا من خسارته لإيطاليا كانت النتيجة أن واصل نابليون التراجع وهذه المرة في المانيا وتمكنت قوات التحالف السادس من هزيمة الفرنسيين في معركة ليبزيش التي وقعت من يوم 16 إلي يوم 19 أكتوبر عام 1813م .
وعلى الرغم من الحملة النابليونية الرائعة خلال عام 1914م ضد أعدائه الأوروبيين من دول التحالف السادس إلا أن تقدمه لم يدم طويلا وإستسلمت باريس لدول التحالف السادس في يوم 30 مارس عام 1814م وبذلك سقطت الإمبراطورية الفرنسية لفترة وبسقوط باريس تنازل نابليون عن العرش يوم 11 أبريل عام 1814م وتولي الملك لويس الثامن عشر حكم فرنسا وتم نفي نابليون لمدة قصيرة إلى جزيرة إلبا الإيطالية بالبحر الأبيض المتوسط لكنه هرب منها علي متن سفينة مع رجال قلائل وأربعة مدافع في يوم 26 فبراير عام 1815م وإقترب من الساحل الفرنسي وأرسل الملك لويس الثامن عشر جيشا بقيادة المارشال ناي لإعتقاله وبعد لقائه بناى وجيشه نزل نابليون من سفينته علي الشاطئ الفرنسي ومشى في مجال الرماية قائلا إذا كان أحد ما يرغب بقتل الإمبراطور فأنا هنا موجود لكن بدلا من إطلاق النار ذهب جنود ناي لينضموا إلى جانب نابليون هاتفين يعيش الإمبراطور ومن ثم إستعاد نابليون بونابرت عرش الإمبراطورية الفرنسية مؤقتا في يوم 20 مارس عام 1815م فيما يعرف بالمائة يوم لكنه هزم مجددا من قِبل التحالف البريطاني الألماني الهولندي في معركة واترلو التي ذكرناها في السطور السابقة وسلم نفسه للتحالف ونفي إلى جزيرة سانت هيلينا وإستعاد الملك لويس الثامن عشر العرش مرة أخرى في يوم 8 يوليو عام 1815م ويعتبر البعض ميترنيش بما حققه في مؤتمر فيينا المشار إليه خير من طبق مبادئ الماكيافيللية السياسية بصورتها الكلاسيكية والتي تنسب إلي السياسي والمفكر الإيطالي نيقولا ماكيافيللي خلال عصر النهضة وصاحب كتاب الأمير الشهير الذى كان يستهدف منه إسداء النصائح للحكام والتي يمكن تلخيصها في مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وأنه لكي يحتفظ الأمير بهيبته عليه ألا يعبأ بعار القسوة وفي الواقع أن ميترنيش كان الدعامة الرئيسية للنظام السياسي في قارة أوروبا القرن التاسع عشر الميلادى والقائم على مبدأ رفض التغيير والمحافظة على توازنات القوى في أوروبا وعلى الرغم من رسوخ صورة تقليدية لميترنيش في ذاكرة أجيال عدة بإعتباره سياسيا رجعيا قاوم بشدة مبدأ حق الشعب في الحكم ومبدأ الثورة على النظام القائم إلا أن هناك رأى آخر يقول إنه كان رافضا لتلك المبادئ الثورية لتيقنه من أنه لو تراخى في مواجهة الثورات الشعبية لأدى ذلك لتقوية المشاعر الوطنية للقوميات العديدة في أوروبا مما يؤدى في النهاية لتفكك الإمبراطوريات القديمة وشيوع الفوضى والخراب والحرب في أنحاء قارة أوروبا . وقد ولد ميترنيش بمدينة كوبلينز بوسط غرب المانيا في يوم 15 مايو عام 1773م وكان أبوه فرانز جورج كارل والملقب بالكونت فون ميترنيش يعمل دبلوماسيا في خدمة البلاط النمساوي أما الأم فكانت الكونتيسة ماريا بياتريس الويسيا وعند ولادة ميترنيش وخلال سنوات عمره الأولى عمل والده سفيرا للبلاط النمساوي لدى إحدى الإمارات الألمانية الواقعة على نهر الراين حيث تأثر ميترنيش الصغير بالأفكار السائدة خلال تلك الفترة بين الأرستقراطيات الألمانية الواقعة تحت النفوذ الفرنسي والتي تمحورت حول ضرورة المحافظة على النظام الأوروبي القديم أو ما عرف بالحكم الأترافي وهو يعني النظام الأرستقراطي والسياسي والإجتماعي الذي نشأ في فرنسا في الفترة من القرن الرابع عشر إلى القرن الثامن عشر الميلاديين ويتصف بأن يكون المجتمع مقسم إلى فئتين إثنتين أولهما طبقة نبيلة تجبى لها الأموال وتعيش حياة ناعمة ورغدة وتتوارث الرئاسة وهي الطبقة الأرستقراطية وثانيتهما طبقة كادحة عاملة وهي طبقة أغلب الشعب وتسمى بطبقة العامةوفي عام 1787م بدأ ميترنيش الدراسة بجامعة ستراسبورج الفرنسية إلا أن إندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م إضطره لقطع الدراسة ومغادرة فرنسا وفي عام 1792م عمل ميترنيش بحكومة الأراضي المنخفضة النمساوية وهي بلجيكا حاليا التي كانت تابعة لآل هابسبورج لورين الذين كانوا يحكمون النمسا في ذلك الوقت وبعد أن قضى عامين بإنجلترا إنتقل إلى فيينا وفي يوم 27 سبتمبر عام 1795م تزوج من الكونتيسة إليانور فون كونيتز والتي كانت حفيدة لمستشار سابق للإمبراطورية النمساوية وقد فتح هذا الزواج له أبواب النخب الأرستقراطية بفيينا حيث تم تعيينه سفيرا للبلاط النمساوي بدوقية ساكسونيا العليا إحدى الدوقيات الألمانية حينذاك حيث وطد هناك علاقاته بالعديد من الأسر الأرستقراطية الألمانية والروسية والبولندية وفي شهر نوفمبر عام 1803م تم تعيينه سفيرا لدى برلين وهناك أيضا وطد علاقاته بالسفير الفرنسي لدرجة أن نابليون بونابرت طلب أن ينتقل ميترنيش إلى العاصمة الفرنسية باريس وفعلا إنتقل إليها كسفير للنمسا في شهر أغسطس عام 1806م وخلال إقامته في باريس تشعبت علاقاته بالحكومة والمجتمع الفرنسي عموما وبدأ نفوذه على مجريات السياسة الأوروبية في الظهور وعند إندلاع الحرب بين النمسا وفرنسا في عام 1809م دعا ميترنيش بلاده إلى التقدم الحذر والتريث وعدم الإندفاع وقبض حينذاك عليه وأودع السجن إنتقاما من النمسا التي كانت قد قبضت على إثنين من موظفي البلاط الفرنسي بهنجاريا وهي المجر حاليا وبقى سجينا في فرنسا حتى سقطت العاصمة النمساوية فيينا بيد نابليون الذي إستبدله بالأسيرين الفرنسيين وأمر بترحيله إلى فيينا وعلى الرغم من حجم الخسائر الجسيمة التي منيت بها النمسا وفقدانها العديد من أملاكها الأوروبية حينذاك إلا أنها لعبت دورا هاما وحاسما في الإطاحة بنابليون بونابرت نهائيا فيما بعد في الحروب التي نشبت عام 1813م وعام 1814م .
وفي نفس العام الذى إنتصر فيه نابليون علي النمسا عين الإمبراطور النمساوى فرانتز الثاني ميترنيش وزيرا للخارجية في يوم 8 من شهر أكتوبر عام 1809م وفي ذلك الوقت أجريت مفاوضات بين فرنسا والنمسا بعد هزيمة النمسا في الحرب والتي فرضت فيها فرنسا عقوبات قاسية على النمسا حسب ما جاء في إتفاقية شونبرون والتي وقعت بالعاصمة النمساوية فيينا في يوم 14 أكتوبر عام 1809م وكان الهدف الأساسي للنمساويين ميترنيش والأرشيدوق شارل الحفاظ على إمبراطورية هابسبورج النمساوية وتحقيقاً لهذا الهدف نجح الأخيران في جعل نابليون الأول يسعى لأهداف أكثر تواضعا مقابل وعود بالسلام والصداقة الفرنسية النمساوية وعلي ذلك فبينما ظلت معظم الأراضي النمساوية الأصلية جزءا من أراضي إمبراطورية هابسبورج إلا أن النمسا خسرت الكثير من أملاكها الأوروبية كما ذكرنا في السطور السابقة حيث حصلت الامبراطورية الفرنسية على كارينثيا وهي دوقية تقع في جنوب النمسا وشمالي سلوفينيا حاليا وكارنيولا وهي إقليم تاريخي يقع في سلوفينيا حاليا وموانئ البحر الأدرياتيكي بينما منحت جاليسيا وهو إقليم تاريخي أيضا يقع بين بولندا وأوكرانيا إلى البولنديين أما منطقة زالتسبورج في التيرول شمالي النمسا والقريبة من الحدود الألمانية النمساوية حاليا والتي تعد رابع مدن النمسا فقد ذهبت إلى البافاريين وبذلك فقدت النمسا أكثر من ثلاثة ملايين تابع بما يمثل حوالي ثلثي إجمالي سكانها نتيجة لتبادل الأراضي وعلى مدى الأربعين عاما التي قضاها ميترنيش في منصبه كوزير للخارجية كان مدركا تماما للمخاطر التي واجهتها النمسا خصوصا بعد أن تغير وضعها وفقدت مركزها كقوة أوروبية عظمى في أعقاب الهزيمة من نابليون وتوقيع إتفاقية شونبرون وتوصل إلى قناعة مفادها أن أمن الإمبراطورية النمساوية أو بالأحرى ما تبقى منها يعتمد بالدرجة الأولى على منع حدوث تقارب بين روسيا وفرنسا وعلى الرغم من تعامله مع الدولتين كعدوتين محتملتين للنمسا إلا أنه كان معجبا بفرنسا بصورة خاصة لذلك فقد رحب بطلب نابليون ليد الأرشيدوقة ماري لويز إبنة الإمبراطور فرانتز الثاني وسافر معها في موكب الزفاف الإمبراطوري إلى باريس في يوم 13 مارس عام 1810م وعلى الرغم من أن المكاسب التي تحققت للنمسا من وراء هذا الزواج كانت متواضعة إلا أن ميترنيش حقق مكسبا مهما من نابليون الذي سمح للنمسا بحرية الحركة سياسيا على الساحة الأوروبية وعاد مترنيش بعد ذلك إلى فيينا في الوقت المناسب لكى يحول دون عقد تحالف بين النمسا وروسيا حيث كان أنصار روسيا في البلاط النمساوى يعملون على إقناع الامبراطور به حيث كان ميترنيش مؤمنا أنه إذا ما حافظ على مسافة متساوية من كلا من روسيا وفرنسا فإن ذلك سوف يمنحه قدرا كافيا من حرية الحركة والمناورة للحفاظ على المصالح النمساوية .
ومع تصاعد العداء بين فرنسا وروسيا خلال الشهور التي سبقت غزو نابليون لروسيا في عام 1812م باتت سياسة ميترنيش المعتمده على المحافظة على نوع من الحياد بالنسبة للقوتين المتصارعتين شبه مستحيلة إلا أنه ومع ذلك حاول الإستمرار في نفس السياسة حتى وقت إندلاع الحرب بالفعل وعلي الرغم من عقده لإتفاق تحالف في يوم 14 مارس عام 1812م مع نابليون وعده فيه بالمساعدة إلا أنه سرعان ما أرسل تطمينات سرية لروسيا بأن القوات الإمبراطورية النمساويه ستبقى محايدة خلال الحرب وستدافع فقط عن أراضيها ولمح ميترنيش لروسيا أيضا بإمكانية عقد تحالف معها في المستقبل وبعدما أصبحت هزيمة نابليون من روسيا مؤكده إثر النتائج الكارثية لحملته عليها تشجع ميترنيش وأعلن نقض إتفاقه مع فرنسا وإلتزام النمسا بالحياد الذي كان يأمل من وراءه أن يؤهل النمسا للعب دور الحكم بين فرنسا وروسيا عقب إنتهاء القتال وقد أثارت هذه السياسات غضب نابليون الذي أنهى لقاء له مع ميترنيش في شهر يونيو عام 1812م قائلا سوف نتقابل في فيينا وكان هذا بمثابة إعلان للحرب على النمسا التي باتت مثل روسيا عدوا لفرنسا وبعدها سارع ميترنيش إلي الإنضمام إلى ما عرف بالتحالف السادس والذي ضم كل من بريطانيا وروسيا والسويد وبروسيا والبرتغال بالإضافة للنمسا وتمكن هذا التحالف في النهاية من هزيمة نابليون وإنهاء حقبة الحروب النابليونية ما بين عام 1813م وعام 1814م وخلال السنوات التي أعقبت الحرب تركزت جهود ميترنيش حول المحافظة على توازن القوى في قارة أوروبا بحيث لا يميل إلى مصلحة أى من دول التحالف خصوصا روسيا وألمانيا وترسخ هذا المبدأ كركيزة أساسية للنظام السياسي الأوروبى طوال القرن التاسع عشر الميلادى وقد لمع إسم ميترنيش الذي كان لايزال شابا في الفترة التي أعقبت هزيمة نابليون في روسيا وفي شهر أكتوبر عام 1813م أنعم عليه بلقب أمير ثم تبعه لقب كونت وعند توقيعه لمعاهدة باريس التي تم توقيعها في يوم 30 مايو عام 1814م أتبع ميترنيش توقيعه بلقب وزير خارجية النمسا وعاد بعد ذلك لفيينا ليشرف على التحضير لمؤتمر فيينا الذي بدأ إنعقاده في شهر أكتوبر عام 1814م وإستمر منعقدا لمدة عام تقريبا وقد أنهت معاهدة باريس المشار إليها الحرب بين فرنسا والتحالف السادس وهي الحرب التي كانت جزءا من الحروب النابليونية بعد الهدنة التي وقعت في يوم 23 مايو عام 1814م بين شارل كونت الأرتواز والحلفاء وقد وطدت هذه المعاهدة السلام بين فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا والمانيا وقد وقعت عليها أيضا دولتا البرتغال والسويد كما وقعت عليها اسبانيا أيضا في وقت لاحق في شهر يوليو عام 1814م وكانت محادثات السلام قد بدأت في يوم 9 مايو عام 1814م بين تاليران الذي تفاوض من أجل لويس الثامن عشر ملك فرنسا ودول التحالف السادس الذين وافقوا علي عدد من الشروط الأولية التي تضمنتها المعاهدة فيما بعد والتي كانت مناسبة لفرنسا كي لا تقلق من إعادة تنصيب ملك البوربون العائد إلي العرش الفرنسي لويس الثامن عشر كما تم التأكيد على حدود فرنسا المتفق عليها في الأول من شهر يونيو عام 1792م وبالإضافة لذلك سمح لها بالإحتفاظ بـساربروكن وسارلويس ولانداو و مقاطعة مونتبيليه وجزء من سفويا مع آنسي وتشامبيري وأيضًا أفينيون والأرض البابوية المحيطة بأفينيون التي عرفت قديما بـكومتات فينيسين وحديثًا ببروفنس ألب كوت دازور كما سمحت لها أيضا بالإحتفاظ بالتحف التي حصلت عليها أثناء الحرب بينما من ناحية أخرى كان عليها أن تتنازل عن عدة مستعمرات وإستعادة إستقلال جيرانها وبالإضافة للتخلي عن أعمال القتال قدمت المعاهدة مسودة للإتفاق النهائي الذي كان من المقرر أن ينتهي وفقا للمادة 32 في غضون الشهرين التاليين في مؤتمر تشارك فيه جميع الأطراف المتحاربة في حروب نابليون وقد أدى هذا الشرط إلى عقد مؤتمر فيينا المشار إليه ومن أجل تمييز هذه الإتفاقية عن المعاهدة الثانية لباريس التي إنتهت في يوم 20 نوفمبر عام 1815م على أنها السلام الأول لباريس . وبعد حوالي 5 شهور من توقيع معاهدة باريس وفي شهر أكتوبر عام 1814م بدا عقد مؤتمر فيينا وكان الهدف المعلن لهذا المؤتمر هو التوصل إلى إتفاق للسلام مع فرنسا وما يتبعه من إحلال السلام في قارة أوروبا لكن كان الهدف الحقيقى للإجتماع هو إعادة رسم الخريطه السياسية لأوروبا لإرجاعها للوضع القائم قبيل إندلاع الثورة الفرنسية بما يضمن إرضاء قوى التحالف المقدس المنتصرة في الحرب وبما يضمن كذلك حماية تلك الإمبراطوريات والممالك من إنتشار أفكار الحرية والديموقراطية التي روجت لها الثورة الفرنسية وكان المؤتمر فرصة فريدة للأمير ميترنيش لكى يؤثر أكبر تأثير على مجريات السياسة الأوروبية بما يؤمن مصالح النمسا وبالفعل فقد أحسن إستغلال تلك الفرصة وبفضل تميزه في الخطابة وكذلك أسلوبه المنمق وذكائه الشديد في معالجة كافة المشاكل المطروحة على المؤتمرين حاز ميترنيش على إعجاب جميع الحاضرين بما في ذلك ممثل فرنسا تاليران وقد نجح المؤتمر في تحقيق أهدافه أو بالأحرى أهداف ميترنيش الذي تمكن من التوصل لتسويات للمشاكل المتعلقة بكل من المانيا وبولندا وإيطاليا والأراضى المنخفضه النمساوية وهي بلجيكا الحالية وهولندا إلا أن أعظم أهدافه التي تحققت كان نجاحه في تحقيق توازن دقيق بين القوى الأوروبية الرئيسية روسيا والمانيا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وخرج ميترنيش من المؤتمر مقتنعا بأنه وقد وضع أساسا راسخا لقيام سلام دائم في قارة أوروبا وقد أدت هذه النتائج إلي تربع ميترنيش على قمة السياسة الأوروبية طوال الثلاثين عاما التي تلت إنعقاد مؤتمر فيينا حتى أن المؤرخين قد أطلقوا على الفترة من عام 1815م وحتى عام 1848م إسم عهد ميترنيش والذي قضى هذه الفترة منهمكا في تدعيم النظام القائم الذي كان هو المصمم الرئيسي لدعائمه وكان الهدف الأساسي لسياساته هو إستغلال النظام المتفق عليه في مؤتمر فيينا والذي إقتضى تعاون الدول الموقعة عليه في مواجهة أى ثورات قد تقوم بإحدى دول الإتفاق وقد نجح نظام ميترنيش في قمع العديد من الثورات التي إندلعت بالمانيا وإيطاليا وهولندا والمجر والإمبراطورية النمساوية خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر الميلادى ومثلت تلك الفترة قمة عصر الإستبداد وقمع الحريات في عهد ميترنيش وعلى الرغم من ذلك فقد حاول أن يقترح بعض الإصلاحات داخل الإمبراطورية النمساوية بما في ذلك إنشاء برلمان تكون كل عرقيات الإمبراطورية ممثلة فيه وقد قوبلت هذه الأفكار بالرفض من جانب الإمبراطور فرانتز الثاني الذي يراه بعض المؤرخين الراعى الحقيقي للسياسات الرجعية التي إتبعتها الامبراطورية النمساوية في تلك الفترة والتي ساهمت إلى حد كبير في قيام ثورات عام 1848م .
وكانت هذه الثورات والتي قامت عام 1848م كما ذكرنا عبارة عن سلسلة من الإضطرابات السياسية في جميع أنحاء القارة الأوروبية وتم إعتبارها من أكثر الموجات الثورية إنتشارا في تاريخ قارة أوروبا وقد تأثرت أكثر من 50 دولة بتلك الموجة ولم يكن هناك أي تنسيق أو تعاون بين ثوريي تلك الدول وكان من بين العوامل الرئيسية المساهمة في إنتشار تلك الموجة هي الشعور العام بعدم الرضا على القيادة السياسية والمطالبة بزيادة المشاركة في الحكومة والديموقراطية وحرية الصحافة بالإضافة إلى مطالب الطبقة العاملة وإزدياد النزعة القومية وبإختصار فإن هذه الثورات كانت ذات طابع ديموقراطي في الأساس بهدف إزالة الهياكل الإقطاعية القديمة وخلق دول وطنية مستقلة وقد أدى إندلاعها في العام المذكور في كل أنحاء قارة أوروبا تقريبا إلى العديد من التغيرات في الملكيات القديمة والتي وإن إحتفظت بعروشها إلا أنها إضطرت إلى تقديم تنازلات لشعوبها لتحجيم خطر الثورة وفي فيينا فقد تعرضت إمبراطورية هابسبورج النمساوية لتهديدات خطيرة من الحركات الثورية ذات الطابع القومي في الفترة من شهر مارس عام 1848م حتى شهر يوليو عام 1849م وكانت تضم تلك الإمبراطورية حينذاك شعوب عديدة نمساوية ومجرية وسلوفينية وبولندية وتشيكية وكرواتية وسلوفاكية وأوكرانية ورومانية وصربية وإيطالية وحاولت كل هذه الشعوب من خلال الثورة تحقيق الإستقلال الذاتي أو الإستقلال التام أو حتى الهيمنة على جنسيات أخرى حيث أن الصورة القومية إزدادت تعقيدا بسبب الأحداث المتزامنة في الولايات الألمانية التي بدأت تنتقل نحو وحدة وطنية المانية أكبر والتي تحققت فعلا عام 1870م علي يد المستشار الحديدى الألماني أوتو فون بسمارك وفي العاصمة فيينا إحتشد ألاف المتظاهرين أمام مقر الحكومة الإمبراطورية مطالبين بعزل الإمبراطور النمساوى وعزل المستشار ميترنيش وفعلا تنازل الإمبراطور فرديناند الأول الذى خلف الإمبراطور فرانتز الثاني عن عرشه وإضطر ميترنيش عندها إلى الهرب من فيينا متخفيا حرصا على سلامته وفي يوم 13 مارس عام 1848م أعلن الإمبراطور الجديد فرانتز جوزيف قبول إستقالة المستشار ميترنيش الذي إختار بريطانيا كمنفى إختيارى له وإنتقل إليها مع عائلته حيث عاش بين بريستول ولندن معتزلا الحياة السياسية حتى شهر أكتوبر عام 1849م حيث إنتقل بعد ذلك إلى بلجيكا وعاش بها حتى عاد في شهر سبتمبر عام 1851م إلى فيينا بعد غياب دام أكثر من ثلاث سنوات وظل بها حتى وفاته في يوم 11 يونيو عام 1859م عن عمر يناهز 86 عاما .
التعليقات مغلقة.