لا بمعنى نعم ….عفاف علي
تعرفتُ عليه منذ عشرين عامًا، كان يقيم بالناحية الأخرى من حيّنا القديم، نذهب في نفس الطريق كل يوم إلى المدرسة، يجلس في الفصل الأخر، هو أكبر مني بعامين، عندما يشاهدني، لا يخاطبني بكلمة .
في إحدى المرات كنتُ أعبر الطريق، وكان مزدحمًا، فعبرت دون أن أنتبه للسيارات، فارتطمت بإحداهن .
أفقت في المستشفى على وجهه، عيناه ممتلئتان بالدموع، فوجدت أمي وأبي بجواره، أبي يشكره بشدة، يخبره أنني منذ الآن أصبحت أخته .
شاهدني وأنا أنزلق تحت عجلات السيارة؛ فأسرع ليخبر أبي و أمي، لم يتركهم حتى أفقت من غيبوبتي، كم شعرت بالسعادة عند رؤيته !.
منذ ذلك الوقت، وهو يعتبرني أخته الصغيرة، يمشي بجواري، يعبر الطريق ممسكًا يدي، ليس لديه إخوة، وأمه متوفية، يبادلني مشاعر الإخوة؛ لكن هذه المشاعر تثير غضبي؛ لأنني أعتبره بطلي؛ الذي أنقذني من الموت، وملاكي الذي يحميني من كل سوء.
مرضتُ في أحد الأيام، فأمسكتُ يده، و وضعتها على رأسي، وبكيت، طلبت منه أن يبعد عني المرض، لم أفهم غير أنه لي، هو ملكي، وشيء خاص بي .
عندما كبرنا اتجهت أنا لكلية الطب، و هو لكلية التجارة، ويشجعني على المذاكرة والاجتهاد، كان صامتًا، لا يتحدث معي، يهوى السكوت عند رؤيتي.
حين أداعب مشاعره ببعض الكلمات، وأطلب منه هدية، أو تذكارًا؛ يرفض بشدة، فكلمة لا، تُقال لي بإستمرار .
_ لماذا لا يشعر بحبي الشديد له ؟.
قررتُ أن أبوح له بمشاعري، طلبت منه أن نجلس على البحر ونتناول طعامًا أو نشرب شيئًا؛ لكنه رفض كعادته.
شعرت بالغضب، قررت أن أثير غيرته، أن أوافق على أي شخص يتقدم لي، لن أرفض أحدًا من أجله مرة أخرى .
بعد مرور شهر تقدم لخطبتي شاب من أصحاب المال و الشهرة، يقف أبي مترددًا في الموافقة عليه، لكنني أخبرته: أنني موافقة عليه، فوافق أرضاءً لي .
كتبت في ورقة ( أخي و صديقي، من الآن أنا أعفيك من حمايتي، أصبحت مخطوبة، ولدي حبيب سيحميني، شكرًا لكَ على كل شيء ).
قرأ رسالتي، ومزقها بعنف، وقال بصوته الجهوري: سمر أنا هنا من أجلك؛ لو احتجت أي شيء .
-نعم، أنا أحتاجك، أحتاج دفء مشاعرك، أحتاج كلمات حب منك، أمسكت يده قبل أن ينهض و يرحل، كم كانت ترتجف يدي حين لامست يده !.
نظرتُ له بانكسار، وقلت بصوت مجروح: أنا أحبك، أحبك كثيرًا؛ لماذا لا تشعر بي؟.
هز رأسه مبتسمًا، وقال: نعم، فأنا أخوكِ .
شعرتُ بضلوعي تتحطم، سمعتُ دقات قلبي المقتول .
نزعتُ يدي، وأقسمت له، أنه لن يراني مرة أخرى؛ غير وأنا أرتدي فستان الزفاف.
مرت الأيام والشهور، وأنا أتعذب بنار الفراق، كرامتي فوق كل شيءٍ، شاهدته بالأمس، كان وجهه شاحبًا؛ ربما يشتاق لي، ربما نار الحب تأكله .
دعوت الله أن يصيبه داء حبي، و يشعر بلهيب الشوق .
و جاء يوم زفافي، أرسل لي رسالة مع أمي، أخبرتني أنه لن يأتي فرحي؛ فهو مسافر في عمل.
ضحكتُ من قلبي، نعم فهو لا يريد أن يشاهدني بفستان زفافي .
أمسكتُ بهاتفي و اتصلت به، قلت له في كبرياء: أخي الغالي و صديقي وحبيب الماضي، لماذا لم تأت اليوم ؟.
رد بضحكة خافته وقال: سامحيني، أرجوكِ أغفري لي .
ارتفع صوتي بالضحك بسخرية، وأنا أقول: كسبت الرهان .
لكن لماذا صوته ضعيف؟ أشعر أنه مريض جدًا؛ وقلبي يخبرني أنه ليس بخير .
نهضتُ مسرعةً، واتجهت نحو منزله بفستان زفافي، أجر معي عشرين عامًا من الحب؛ ليفتح والده الباب، و هو يبكي. فصديق عمري يحتضر، هو بين الحياة والموت؛ ينازع من أجلي .
نظر لي والده وقال: هو قال لكِ: لا، ويريد بها نعم .
جلست بجواره أتطلع إلى ما تبقى من ملامحه، لماذا ؟
قال : لتعيشي حياتك، فأنا مريض منذ طفولتي، لم يكن سكوتي إلا ردًا على أحلامك؛ فسامحيني واذهبي لعريسك .
كيف لم أعرف أنكَ مريض؟ أنا طبيبة فاشلة، كل شيء يدل على أنك مريض، ترددك على الأطباء، لونك الشاحب، أنا أنانية، أنا لا أستحق الحياة أو حبك .
لأول مرة يمسك بيدي، ويطلب مني أن أذهب، لأكمل مراسم فرحي، أن أقتل بيدي حبه، أن أنزع صورته من عيني، لأول مرة يقول لي: حبيبتي .
عاهدته أن أعيش بعده، وأن انتبه لصحتي و مستقبلي،
كنتُ ارتدى فستاني الأبيض؛ وهو يرتدي كفنه .
ذهبتُ مع عريسي؛ لشقتي الفاخرة، وذهب هو لقبره.
مات؛ لكنه عاش بداخلي حيّا، وعشتُ؛ ولكنني بداخل قبره .
التعليقات مغلقة.