لا تعبد الأصنام…بقلم خالد العجماوي
صديقي الكاتب المغمور..
أكتب إليك يا عزيزي من أسفل القاع، آملا لهذه الكلمات أن تصل إلى عقلك وقلبك.
أنا مغمور مثلك، يجمعنا شغفٌ لا ندري له سببا ولا نعرف له منتهى، غير أن ذلك الشغف يأسرنا بإطار من حلم مخملي، يدفعنا إلى أن نسجن أنفسنا مختارين، كي تتحرر فينا أفكارنا ومشاعرنا؛ فتعدو من ثنايا أناملنا، عبر الحاسوب، أو ربما الورق، إلى عالم المحسوس والمقروء.
أريد أن أقول إن أفكارنا قبل أن نشرع في كتابتها تكون كالروح الهائمة، والتي ما أن تتدفق عبر حروفنا فإنما تتلبس جسدا من عبارات وجمل. قد تكون الروح تلك وديعة وصافية، وقد تكون كالريح العاتية..كلتاهما تكون قد أثرت فينا أيما تأثير، حتى قهرت فينا جوارحنا، فأرغمتنا على أن نجعل لها جسدا من حروف وكلمات.
دعني أخبرك سرا؛ طالما استطاعت أفكارك أن تأسرك إليها، فأرغمتك على الجلوس للكتابة، فأنت بذلك تكون كاتبا..رغم أنفك!
ليس لأحد أن ينفي عنك صفة كاتب. طالما يدفعك شغفك إلى رصّ الحروف، فتكون جملا، لتصف فكرة، أو شعورا يعتريك فأنت لا بد كاتب. ليس بالضرورة كاتب جيد ولكنك تظل كاتبا وإن كنت لا تدرك حقيقة الأمر بعد.
تشعر بحرية عجيبة. أعرف. الكتابة سحر. إنها أشبه بالتحليق بعيدا. هي تأسر جوارحك، ولكنها تطلق العنان لروحك. لذاتك الحقيقية. لنفسك التي لا يراها أحد..ولا حتى أنت. تشعرك الكتابة بأنك ملك؛ تملك رقعة الصفحة البيضاء فتملأ بياضها بسطورك. أفكارك هي التي تحكم المملكة. تلك التي صنعتها بخيالك، فتجعلك المهيمن على أركانها جميعا.
صديقي العزيز، إن كان هذا شغفك؛ فأنت كاتب!
دعني إذا يا عزيزي أسرد إليك نصيحتي. تلك النصيحة البالية والمغمورة، والتي لا تملك أي قيمة، إلا قيمة واحدة: الصدق.
نصيحتي إليك أن تملك أنت زمام مملكتك التي صنعتها بنفسك. حسنا..لقد قلت لك الحقيقة وهي أنك كاتب، ولكن يظل سؤالا مهما: هل أنت كاتب جيد أم سيء؟
لا بد لنا أن نعرف كيف تدار الأمور، كيف نسوس المملكة. ماذا فعل سابقينا في ممالكهم. لا بد أن نعرف قواعد اللعبة.
ربما لا نريد أن نشغل أنفسنا بالقواعد، وما فعله سابقونا. حسنا.. ليكن، ولكن فلنتقبل إذا أنا وأنت إن وجدنا مملكتنا هشة، ضعيفة، بل وسيئة، ومن ثم لا يريد أن يسكنها أحد. أقصد. لا يريد أحدهم أن يقرأ لنا.
لا بد لنا أن ندرك مزايا ممالك الآخرين، كيف تنشأ المملكة، أو بالأحرى، كيف تُكتب النصوص؟
أهم قاعدة تعلمتها يا صديقي حول هذا الأمر، هو ألا قاعدة!
صدقني.. ليست ثمة قواعد ثابتة نتحرك من خلالها. ولذلك فالقراءة الثرية هي السبيل لتشكيل وعي أدبي خاص، ومن ثم ذوق محدد. وأعني بالقراءة الثرية أن نقرأ -أنا وأنت- في كافة جوانب الحياة. إن أردت أن تكون قاصا فلا بد أن تكون نهما لمختلف الكتب..ربما يدفعك شغفك نحو نوع معين من القراءات. لا أرى بأسا ولكن حاول أن تنوع. التاريخ، الأديان، الفلسفة، حتى العلوم، كلها معين لخيالك الجائع الذي لا بد لا يشبع من نوع واحد. لا تشبع من نوع واحد يا عزيزي. الفلسفة معين مهم للكتابة في نظري. علم النفس ربما. روايات أخرى لكتاب فائقين لإعلاء ذائقتنا الأدبية يفيد كثيرا. روايات عربية وغربية، وربما لكتاب من أقاصي الشرق. لا يهم. بالعكس..لا تسجن نفسك داخل إطار واحد، وزمن واحد..كلانا حر في قراءاته. ليس علينا قيود..أجمل ما في القراءة هو الحرية. وأجمل ما في الكتابة أننا نصنع تلك الحرية!
ثم دعني أهديك نصيحتي المغمورة الأخيرة:
لا تعبد الأصنام!
لا تصنع لنفسك صنما. حسنا. أنا لا أومن بالرأي الواحد. لا تجرِ وراء ذوق معين..لا تسجن نفسك داخل فكر محدد، ولا تسمح لأحد أن يأسر فكرك داخل فكره أو ذوقه.
كن أنت. اقرأ كثيرا. استوعب. كوّن مملكتك الخاصة ولا تكن صورة من غيرك. ومن ثم، لا تخف من النقد والنقاد، ولا تعبد أراءهم ولا أفكارهم. اقرأ ما كتبوه عنك. حاول أن تفهمه. لا تجعله قرآنا، فهو ليس مقدسا. قلت لك يا عزيزي لا قواعد ثابتة صدقني. فقط تقبل أراء غيرك. هم عين غير عينك، وقلب غير قلبك، وفي الأخير تريد -وأريد- أن تصل أفكارنا ومشاعرنا التي أسرتنا أمام أوراقنا أو الحاسوب خاصتنا، إلى عقولهم وقلوبهم. الكاتب في نظري كصانع القهوة، والقارئ كالزبون، ما أن يرتشف قهوتك فسيخبرك، إما أنها أعجبته أو لا، وليس لك أن ترغمه على إبداء إعجابه قهرا! أما الناقد فهو الذي يعرف سر الخلطة، ورغم ذلك فالأكاديميون كثيرا ما اختلفوا مع القراء العاديين، والذين هم الشريحة العريضة التي تريدها هدفا حقيقيا لمملكتك.
تذكر؛ لا قواعد ثابتة.
خذ مثالا..فلنسرد هذه القاعدة: تتكون الطاولة من سطح مربع، و سيقان أربعة، واحدة في كل زاوية.
إذا اعتبرنا هذا قاعدة، فإن كل نجار يتبع هذه القاعدة يستطيع أن يصنع طاولة بشكل صحيح. ولكن يظل للنجار المبدع رأيا آخر في ذلك. المبدع سيكسر شيئا في القاعدة السالفة؛ ربما يصنع سطحا مدورا، أو مثلثا. حسنا.. ربما يجعل للطاولة ثلاثة رجول بدلا من أربعة. ربما اثنتين..ربما واحدة في المنتصف.. أرأيت؟
سيكسر المبدع شيئا ما في هذه القاعدة..لا بد للمبدع أن يفهم القاعدة في البداية، ومن ثم يكسر شيئا فيها..أما ألا يتبعها من الأساس فهو بذلك لا يكون نجارا، ولن تكون طاولة!
ربما تضحك الآن ساخرا، وتسأل في تهكم: من ذا الذي ينصح؟
أجبتك أول المقال يا عزيزي؛ فأنا أكتب إليك من القاع، وأنا مغمور مثلك.. وقد وجدت بعضنا وقد تأثر برأي أحد النقاد فيه، فأردت أن أسليه بمقالي هذا، وأن أذكره أخيرا بنصيحتي الصادقة: لا تعبد الأصنام!
التعليقات مغلقة.