لا تكن عبداً للمال ..تسعد/ مقال بقلم د.صبحي زُردق.
لا يجتمع راحة البال و حب المال لدرجة عبادته أبداً ، كلنا نحب المال لكن هناك فرق بين من يتخذه وسيلة و من يتخذه غاية في ذاته حباً في جمعه و تكنيزه فيحرم حق الفقراء و يظلم من أجله و ينافق من أجله ، و ينقض العهد من أجله ، و يخاصم من أجله ، و يرضى إذ حصل عليه و يحزن إذا لم يحصل عليه ….إلخ
..
و قد أشار القرآن إلى هذا الصنف من الناس الذين يتمركز سلوكهم قولاً و فعلاً و مشاعرهم فرحاً و حزناً حول حبهم العميق للمال ، إنهم عُباد المال ذكرهم القرآن في أكثر من موضع على سبيل الذم،فقد بيَّن حالهم لنا ووصف طباعهم لنا ، على النحو التالى:
..
١- يَسعد إذا اُعطى ، يغضب و يشتكي إذ لم يُعطى: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ [ سورة التوبة: 58]
التفسير الميسر : ومن المنافقين مَن يعيبك في قسمة الصدقات، فإن نالهم نصيب منها رضوا وسكتوا، وإن لم يصبهم حظ منها سخطوا عليك وعابوك.
..
٢- لديه استعداد أن ينقض العهد في سبيل المال :قال تعالى (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76)التوبة..
تفسير الطبري : يقول تعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله ” فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ” بفضل الله الذي آتاهم, فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله ” وَتَوَلَّوْا ” ، يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله.
..
٣- يبيع أو ينسى دينه بعرضٍ من الدنيا :قال تعالى ( وإِذَا رَأَوْاْ تِجَٰرَةً أَوْ لَهْوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا)الجمعة ١١
التفسير الميسر : إذا رأى بعض المسلمين تجارة أو شيئًا مِن لهو الدنيا وزينتها تفرَّقوا إليها، وتركوك -أيها النبي- قائمًا على المنبر تخطب.
٤- يحب تكنيز المال و جمعه بأى وسيلة : قال تعالى( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم )التوبة ٣٤…
المختصر في التفسير : والذين يجمعون الذهب والفضة، ولا يؤدون ما يجب عليهم من زكاتها، فأخبرهم – أيها الرسول – بما يسوؤهم يوم القيامة من عذاب موجع.
٥- يبخل على الناس بما يطلبوه منه فهو لا يحب أن ينتفع به أحد : قال تعالى (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)الماعون ..
تفسير السعدي : أي يمنعون إعطاء الشيء الذي لا يضر إعطاؤه ، على وجه العارية أو الهبة كالإناء والدلو والفأس و غيره.
٦- لا ينشط إلا لمصالح مادية و مكاسب دنيوية: قال تعالى(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَٰكِنۢ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ)التوبة ٤٢.
التفسير الميسر : وبَّخ الله جلَّ جلاله جماعة من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف عن غزوة (تبوك) مبينًا أنه لو كان خروجهم إلى غنيمة قريبة سهلة المنال لاتبعوك، ولكن لما دعوا إلى قتال الروم في أطراف بلاد (الشام) في وقت الحر تخاذلوا، وتخلفوا.
..
٧-يخشى كساد تجارته أكثر من خشيته من ربه : قال تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)التوبة ٢٤.
..
٨- الانفاق في سبيل الله يعتبره مغرماً :قال تعالى ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًاً)التوبة ٩٨.
..
٩- لديه نفس لا تشبع ، يفكر دائماً في المزيد دون قناعة و لا رضا بما أعطاه الله ، و هى الحالة التى استعاذ النبي صلوات الله عليه منها في الحديث :(اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من قلْبٍ لا يخشعُ ، و من دعاءٍ لا يُسْمَعُ ، و من نفْسٍ لا تشبعُ…..)صحيح
..
وأصل “عبادة المال” هو حب الإنسان و تعلقه الشديد له و النفس التى لا تشبع و الحرص على الدنيا ،و هو ما أشار إليه القرآن في الآية ﴿وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا (٢٠)الفجر، و في الآية ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) الأعلى ، إنه حب و حرص و تعلق شديد تجعل من الإنسان عبداً للمال إلى الدرجة التى تجعله ينقض العهد ، و لا يقدم خيرا طلبه الناس منه ، و يبخل، و ينافق ، ويظلم، بل و يقتل،و يمنع حق الفقراء ،بل لا ينشط إلا للمال ،و لا يحزن إلا للمال ، و يعد النفقة في سبيل الله مغرماً ، يبيع دينه ببضعة دنانير …
..
لا يجتمع أبداً راحة البال و عبادة المال .. أتدري لماذا ..؟
لأن علم النفس يبلغنا بقاعدة أساسية و هى : أنه كلما كان تعلق الإنسان بشىءٍ شديداً كلما تألم بشدة إذا خسره” بمعنى أن ألم الخسائر يرتبط ارتباطاً طردياً بمدى تعلقنا بالأشياء”
..
لذا “عابد المال” هو شخص” دائم القلق ” يسيطر عليه التفكير السلبي باستمرار بشأن ما قد يتعرض له من خسارة أو تجارة يخشى كسادها، و هو شخص يتألم و يتحسر إذا نقص ماله أو غرم ، و هو شخص “دائم الفِكر و الانشغال ” في كيف يربح المزيد ؟ يكتوي باستمرار بنار نفسه التى لا تشبع و لا تقنع، ليصبح في النهاية شخصاً مصاباً بجميع أعراض الضغط العصبي السلبي ، غير راضٍ، غير سعيد في حياته، غير مرتاح البال.
ويدل على تلك التعاسة ما دعا به النبي ﷺ على عبد المال من شقاء وانتكاس و بؤس ، و ذلك في الحديث الشريف
(تعِس عبدُ الدينارِ ، تعِس عبدُ الدرهمِ ، تعس عبدُ الخميصةِ ، تعس عبدُ الخميلةِ ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ) حديث صحيح..
(تعِس )يَعني: عَثُرَ وسَقَطَ على وَجْهِه، والدِّينارُ مِنَ الذَّهَبِ، والدِّرهَمُ مِنَ الفِضَّةِ، والخَميصةُ: كِساءٌ أسوَدُ مُربَّعٌ، له خُطوطٌ، وسَبَبُ الدُّعاءِ عليه أنَّه: إنْ أُعطيَ مُرادَه مِنَ المالِ واللَّذَّاتِ رَضيَ عنِ اللهِ تَعالى، وإنْ مُنِعَ كانَ ساخِطًا غاضِبًا. و قد كَرِّرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الدُّعاءَ لِلتَّنفيرِ مِنَ الاتِّصافِ بمِثلِ هذه الصِّفةِ.
..
لذا علينا جميعاً أن نقدم حبنا لله ورسوله على كل حب ، سواء كان مال أو غيره ، فعبد الدرهم و الدينار هو شخص تعس قلق حزين .
التعليقات مغلقة.