لا عزاء لكم بقلم.مهدى الجابرى
جَلَسَت جدتي تفرد التمر الطري، في باحة الدار المكشوفة يظللها النخيل والأشجار، محاطة بسلال التمر، وما صنعته يدها من حصران، مع خيوط شمس الصباح الإولى، يوم خريفي منذ عقود أربعة خلت.. راحت تعزل التمر النظيف جدا، وتردد ( تمنيت الإبن يمي وحاچيه.. وراويه حال امه وبچيه)(١)
رمقتني بنظرة ثاقبة، جعلتني أخفف من الهرولة وأقدامي تضرب بعضها، إجلسي وساعديني، رحت أتأمل أناملها الجميلة النحيفة، وعينيها الواسعتين، وتقدم الحاجب وتهدله، والتخسفات الجميلة مع بياض وجهها، عودتنا تزيل قشرة حبات التمر واحدة تلو الأخرى وتخرج النوى بعد فتح الحبة، أشارت بيدها إلى الصفائح المعدنية طلبت مني وضعها بالقرب منها.. الكمون وحبة الحلوة والزعتر والسمسم، تضع كمية وترش طبقة من الخليط المعد، تدعك طبقة التمر جيدا تضع كوبا من عسل التمر، تردف بطبقة أخرى وهكذا، حتى تمتلأ الصفيحة المعدنية، تعيد الغطاء عليها، دفعت الصفيحة وتبسمت، وأشارت بيدها على إنها جاهزة.
زفرتُ نفس عميق
“ولمن كل هذا ياجدة؟”هي “تمرة نأكلها وانتهى”
“هذه هدية أعدها كل سنة إلى أخوالك” في بغداد أنا أسميها مربى التمر، هم يحبون ذلك.
ناوليني( الخصاف )(٢) اضع فيه التمر وأكبسة جيدا..
نظرت بوجهي وأنا امسح العرق من جبهتي بانت نواجذها تلطف بسمتها، أنهضي احضري ملابسك غدا تسافرين معي إلى بغداد، وهل بغداد جميلة؟ نعم هي العاصمة فكيف لاتكون جميلة.. أنا غير مطمئنة لإنتماء أخوالك إلى حزب محظور…!
مساء اليوم التالي كانت وجهتنا محطة القطار، طابور المسافرين لا حدود له، أجلستُ جدتي في مكان مخصص لأصحاب الاحتياجات الخاصة، رزمت التمور مع الأحمال، تحرك القطار معلنا استئناف الرحلة، جَلَّسَتْ قرب النافذة وشاحت بوجهها عني حسبت أنها أبهرتها المناظر الطبيعية، تحولتُ إلى المقعد الذي يقابلها، رأيت الدموع تنزلق على خديها كالمطر، عندما رأتني أمامها أظهرت أنتها مع نحيب ( يمه الولد ماكو بعِزه واله بتالي الليل فزه) (٣)
لم تنم هذه الليلة في الصباح الباكر وصلنا محطتنا الأخيرة بغداد، أُنزلت البضائع والأحمال، استأجرنا سيارة خاصة وصلنا إلى وجهتنا، وجدنا رجال أمن يحرسون باب بيت الخوال، وأنا أدفع بعربة جدتي أخذني الخوف أدفع بالعربة لكنها لاتتحرك تقدم إلينا إبن الجيران وهمس بصوت خفيف، عظم الله أجرك ياجدة إبنك كاظم أُعدم هو وزوجته لإنتماءهم إلى حزب محظور، وممنوع البكاء والنواح والعزاء، لا عزاء لكم، صرخت بصوت عال مع شهقة ألم ورمت نفسها على الأرض( اجيتك ييمه وكلي هموم، وتدري إمك ما تكدر تكوم)(٤) ( اريد وياك يمه ما ريد الهوى وحگ الله موتتنا سوه) (٥) أغمي عليها.
(١) موال حزين: تتمنى ابنها بقربها وتكلمه.. وتشرح همومها وما جرى عليها.
(٢) مصنوع من خوص النخيل شكله دائري لكلبس التمور داخله..
(٣) ايضا موال : تقول فية الولد عزيز حتى في الليل تستقيظ وتتذكره.
(٤) أنا في طريقي إليك محملة بالهموم… ويصعب عليه النهوض.
(٥) ترغب ان تدفن معه.
التعليقات مغلقة.