لحم متبل
أمل الجندي
إن ما فعلتهِ كان فظيعا ؛
أوه ..لا ، لم يكن فظيعا بالدرجة التي تجعلنا نصفه بذلك فقد كان مُستحِقا لكل ما حدث له ، وكنت أستحق أيضًا كل ما جرى لي ..فالزواج برجل غني أمر مكلف للغاية ، أن يوجد ثري بشع إلى جواري في فراش واحد لهو أشبه بالرقاد إلى جوار الموت جنبا إلى جنب .. فكرة بشعة حقًا جرت عكس كل ما تخيلته إذ كنت أتخيل أن الزواج بمدني ثري سيكون أفضل بكثير من العيش في بيت فقير بقرية لا يملك قاطنوها من الطموح سوى قوت اليوم والجنس مقتبل الليل رفقة امرأة تفوح برائحة الخبز والحليب و النوم كجسدين لم يفقها من ذلك إلا الغريزة والحق الشرعي ، لقد تصورت أشياء عكس ذلك تمامًا ، تصورت الخلاص والثروة واللطف والرفق الذي جهله أبي فقد أتقن السب واللعن والصفع ببراعة لا يضاهيه فيها سواه إذ كان مع كل كف يسدده إلىّ يكسر في قلبي نبضه حتى إنكسر قلبي كله وتسرب منه حبًا حلت محله محاولات لم تنتهِ للهرب وكل مرة أفشل فيها كنت أزداد إصرارًا على ذلك ، فوحده الهرب كان نافذتي المفتوحة على الحرية التي تخيلتها وقتذاك فدفعت ثمنها عمرًا بكامله ، ذات ليلة أخذني النزق والكل نيام ، تسللت عبر نافذة غرفتي وخرجت لأسير في الطريق المفضية إلى القبور كطريق مختصرة لا يسلكها الكثير من أهل القرية للخروج منها ربما لأنه لا يوجد متسللون سواي ، ظننت أن أحدا لن يصادفني وخاب ظني فقد صادفني وبعد أن قطعت نصف الطريق غريبان سكارى ، هاجماني وقتلا فِيّ حماسي وفرحي بأنني كنت على وشك الخروج أخيرًا ، بعدما فعلوه عدت إلى البيت ، دخلت من ذات النافذة ،ممزقة ، متعبة ،أرتعد نمت ولم تنم رغبتي في التخلص من هذا المكان الموبوء بمن فيه في الليلة التالية كررت فعلتي ووصلت إلى المدينة ، كنت لا أدري إلى اين سأذهب أو ما الذي يتحتم علىّ فعله لكنني وصلت ، بالصدفة بينما كنت أسير مشردة كان ثمة باب يلمع ، المكان كله مضاء والإعلان الموجود على الجدار كان يبرق في الليل ، برق في ذهني أيضًا ، دخلت بكل ما لدي من مراهقة وجمال وسذاجة
_ أريد العمل كعارضة أزياء .. رأيت الإعلان !!
نظرت إلىّ الموظفة ،كأنها تتعجب من بساطتي ووجهي الخالي من الماكياج وثيابي المبللة بالعرق وشعري المعصوب بمنديل مترب وأظافري غير المطلية إلا أن وجه المصور الجالس برفقتها قد تهلل فجأة وأخذني إلى جلسة تصوير مباغته ثم جلسة أخرى بثياب لست أعرف حتى أسماء ألوانها ومساحيق جعلتني أبدو كأخرى غيري ، عرض صوري على صاحب شركة الأزياء فبدا وكأنه وقع في حبي ،علمني بنفسه كيف أمشي مشية
ال *catwalk حرص على أن أتقن اللغات و أسمع الموسيقى وأقرأ الكتب ،أنتحر في النوادي الرياضية وآكل بحساب ،صرت أنحف وأخف وأجمل ، تغيرت تمامًا بمضي الأيام باتت لدي ثروة ، شقة فخمة وسيارة بل سيارات وشقق قدمت لي كهدايا أثار مقدموها من مديري الشركات غيرته ، طلبني للزواج وكنت مازلت متعطشة للمزيد من الثروة ، ثروة مدني مثقف ، كان يكبرني بخمسة وعشرين عامًا ، تزوجنا وكلما كنت أزداد جاذبية كان يزداد غيرة وحقدًا ، شيئا فشيئًا بدأ يمنعني من الخروج ، يمنعني من العمل الذي عشقته وعشقت الاضواء ، مزق الكتب التي أحببتها ، حبسني ، صفعني ، ضربني أمام ضيوفه وأخذني إلى فراشه عنوة ، بدأت أحس برغبة أخرى في الهرب ، بحضن آخر ، بأنفاس حانيه تطمئن جسدي الذي يمزقه كل ليلة بأنياب الرغبة فأتذكر أولئك الغريبين على طريق المقابر الذي لا يسلكه أحد من قريتنا ، كرهت جسدي ورحت امزقه بشفرات الحلاقة ، أعكف على نتف شعر رأسي ، ألطخ وجهي بالماكياج بشكل عبثي ، ولم أعد ارغب في الهرب ، لقد آلمني ، نهشني ، أكل لحم روحي فإن كان للروح لحم فقد أكله العذاب ..
ليلتها ضاجعته برغبة مني وقد كان سعيدا مستغربًا لذلك ، ناولته كأسًا قد وضعت له فيه مخدرًا قويًا وحين انتهيت منه مزقت لحم جسده تبلته جيدًا ، وضعته في الفرن وحين نضجت رغبتي في الانتقام أكلته واحتسيت زجاجتين من النبيذ الأحمر ، ولا أدرى لمَ سرى الفزع إلىّ بدلًا عن السرور ، رحت أجري في شوارع المدينة ، يتجنبني المارة كمن يتجنبون امرأة تعاني الجرب ،التقطني شرطي يأتي كل يوم إلى محبسي ليخبرني أن ما فعلته كان فظيعًا
فأتنهد مرتعشة هامسة :
” لو أنك هنا يا أبي لقبّلت كفك إن صفعتني هذه المرة فقط “
(*) طريقة مشي عارضات الأزياء
التعليقات مغلقة.