لعنةُ مشاعر .بقلم.محمد بلال حجازي
الضبابُ يحيطُ بالمكان
الرؤيةُ شبهُ معدومة
وفي المقهى القريب يجلسُ رجلان
رجلٌ قاربَ السبعين من عمره، يجلسُ وحيداً يحتسي فنجانَ قهوة، وبقربه جريدةٌ يقلبُ صفحاتها.
وشابٌ يناصفُ عمره، فبعدَ شهرٍ يكملُ الستةَ وثلاثين عاماً.
بيدهِ هاتفهُ المحمول، يبدو أنهُ ينتظرُ مكالمةً ما، يقلبهُ بيده، وبيدهِ الأخرى يرتشفُ الشاي من كأسٍ ضخمٍ كإبريقٍ كامل.
فجأة يرنُ الهاتف، وتبدو الابتسامة على وجههِ، يقلبهُ، يناظرهُ، يعبسُ مجدداً، يغلقهُ، ويجلسُ كما كان.
يُفتَحُ بابُ المقهى، تدخلهُ شابةٌ قصيرة، تحملُ مظلة، وحقيبةً زهرية اللون، ورداؤها بني بأزرار، غطاءُ رأسها أسود، وعيناها كحلاويتان.
تجلسُ قربَ النافذة، تتلفت يمنةً ويسرة، وكأنها على موعدٍ مع أحدهم، تطلبُ النادل، الذي يأتيها بابتسامة المجاملةِ المعهودةِ منه، تفضلي سيدتي، كيفَ أساعدك؟
أريدُ فنجانين من القهوة، وبدون سكر إن سمحت.
النادل: عفواً، لكنكِ وحيدة، وتطلبينَ فنجانين!!!
يمكنكِ طلب الآخر لاحقاً كي لا ينالهُ البرد إن أردت!
_ لا، أريدهما معاً، ولا دخلَ لكْ.
حسناً سيدتي.
_ طالَ انتظارُ الشاب لاتصالهِ ذاك، بينما قرأ العجوز جريدتهُ للمرةِ العاشرة، والفتاةُ تنتظر، عاقدةً حاجبيها، متجهمةَ الوجه، ترتشفُ قهوتها بحنقٍ واضح.
_ فجأةً ينفتحُ الباب وتتعلقُ أنظارُ الثلاثة به، لتدخلَ عجوزٌ تتكئُ على عكازٍ خشبي، بمعطفٍ ثقيل، ليقف العجوزُ متهللَ الوجه ضاحكا مستبشرا، يبعدُ لها الكرسي بلباقةِ شابٍ عشريني، وتجلسُ والفرح بادٍ على وجنتيها التي نالت منها تجاعيد كثيرة.
أهلا بك، طالَ انتظاري لك، لمَ تأخرتِ؟
لا عليك قُدِرَ لي أن آتِ الأن، تأخرتي كثيرا؟
سأغادرُ لو شئت؟
لا لا فلتبقي، متى كانَ أخر لقاء؟
منذ أربعين عاما!!!
دهرٌ مضى من العمر، وأنا كلُ يومٍ أنتظركِ هنا.
ما كانَ عليك أن تنتظر، فأنا أعرفُ جيداً كيفَ أجدك عندما يحينُ الوقتُ المناسب.
لكن يسعدني انتظارك.
أمسكَ العجوز بيدها، متحسسا تجاعيد لم تكن موجودة عند أخر لقاء بينهما، حين كانت تفوح أنوثتها كما ياسمين الطريق الأبيض، قربها من شفتيه وقبل يدها.
حبيبتي..
تعلقت أعين الشاب والفتاة بالعجوزين، يحلقان معا في عمر قضياه ينتظران بعضهما، كل بطريقته.
_ ومعا واليد باليد مالا عن الطاولة، ليرتطم رأسهما على الأرض، وأيديهما متشابكة، والوجه يقابل الوجه كأنها ينتظران قبلة اشتاقا لها طويلا.
_ هرع الشاب والفتاة والنادل إليهما؟
اقترب الشاب يتفحص حالهما، لا أنفاس ها هنا، ماتا.
الفتاة يداها على وجهها تبكي، والنادل يهرع إلى الهاتف طالبا الإسعاف، وكل تأثر بطريقة ما.
دوت صفارة سيارة الإسعاف، نقلتهما، وعاد الشاب إلى طاولته، والفتاة لمكانها، وكل منهما يبكي شيئا ما غير الذي رآه.
صمت مرعب، قرع خطواتٍ يمزق الهدوء، رجل ثمل بمسدس يدخل المكان مترنحا، يطلق الرصاص بعشوائية، تختبئ الفتاة خلف الشاب الذي لا تعرفه، النادل يخرج مسدسه، مصوبا إياه نحو ذاك المشرد الثمل، ويطلق ثمانِ رصاصات تخترقُ جسده، قاتلا إياه كأنه تمرس على مثل هذه الحالات.
وبالركل والسحب رماه خارجا، متصلا بالشرطة، تأخذ جيفته كما أسماها.
تعلقت أعين الشاب بالفتاة، بدت جميلة كزهر الغاردينيا الذي يحب، دعاها لتجلس معه، تمنعت معتذرة أنها تنتظر شخصا ما.
فقال لها: وأنا أيضا أنتظر أحدهم.
الباب ينفتح، رجل جهم المنظر، بسحنة شيطان، يحمل كيسا أسود، بيده خاتم فضي، يقترب ليجلس بقربها.
_حوقل الشاب، كيف يقطف تلك الزهرة علج جلف بلا مشاعر كهذا الوحش البخيل بمشاعره قبل المال؟
الرجل يلقي التحية، يجلس بقرب الفتاة، يبتسم فلا تبدو على ملامحه إلا القسوة، يحادثها”
كيف حالك؟
بخير، لكنك تأخرت؟
يصرخ بها، هي أعمالي وأموالي أأتركها لأرضيك؟
لا عليك، لا تترك شيئا فلا استحق منك ذاك.
لن أترك فالمال والعمل أهم منك ومن كل ما لديك.
اصمت، لا جديد تقوله، اعتدت على كل ذلك؟
يرن هاتف ذاك الرجل تعال بسرعة فالعمل ينتظر، ولن يكتمل بدونك.
يرمقها ويلوح بيده مغادرا من حيث أتى، تجلس وحدها مجددا صامتة والدمع يترقرق في أعين أنثى كاملة نبتت في صحراء رجل للصخور أقرب.
_ تعلقت أعين الشاب الثلاثيني بالفتاة، ليتفاجأ بيد تلوح أمامه، لتلفت انتباهه” أنا هنا ” .
فزع الشاب: هدأ قليلا، استجمع نفسه، أهلا بك.
_ كانت كما لو أنها قادمة من حرب طويلة قطعت انفاسها، أنا جائعة اطلب لنا الطعام، حسنا قالها الشاب ممتعضا.
لما تأخرتِ؟
أعمال المنزل….
وقبل أن تكمل أخذ الشاب عنها الحديث!!
أعلم أعلم ستسردين لي كل ما في الحياة من هموم فتلقيها بين يدي وتعتبرينني المسؤول عنها.
تصرخ به: هكذا أنت دائما لا تشعرُ بي؟!
تضرب بيدها على الطاولة، وتغادرهُ مجددا، يحدث نفسهُ، الحمد لله أنها لم تجلس أكثر، ويعودُ مقلباً بهاتفه.
_ الشاب والفتاة والنادل.. وبدأ المكان يعج بالحاضرين.
استجمع الشاب أشياءه، وهم بالرحيل.
اقترب من الفتاة التي تضع أمامها دفتراً وعليه وردة حمراء، أخذ الوردة، اشتمها، أعادها، وهي تناظره وتبتسم.
هل أعجبتك؟ خذها.
لا أنا أريد صاحبتها فقط، فهل تأتين؟
نعم سآتي.
لملمت أغراضها.
شبكت يدها بيده
وخرجا معا إلى طريق محفوف بالموت وتحت أقدامهما، تنبت بتلات زهر الياسمين.
تعقيب الكاتب:
قد تظنها قصة من نسج خيال كاتب مبدع، لكنها والله حشرجة روح تختنق، فسيء جدا أن يسرقك شخص من نفسك، وأن يقلبوا طباعك، لتغدو جلفا جافا قاسيا بلا أحاسيس، فتمد لك يد، تسرقك من كل هذا، تحلق بك فوق السحاب، لتلقي بك من أعلاها إلى الأرض، كأن أثرك غير موجود عليها، فلحقت بركب من تفننوا سنوات بقتل كل جميل خلقه الله بك.
التعليقات مغلقة.