لقاء الغرباء.. قصة قصيرة بقلم فادية حسون
أمسكت هندُ بيد طفلتها ذات السنوات الخمس ، ومضت تتأبّط شوقا إلى ماضٍ رحل مقتصّا من سويعات الفرح والأمنيات الجميلة..
لم تكن تفاصيل ذاك الطريق إلا شريطا سينمائيا يعرض فصول لقاءاتهما البريئة..
حيث كان يتعمّد المرور من هنا وقت انصرافها من المدرسة.. ليلمحها وهي آتيةٌ برفقة زميلاتها بوجهها المتورّد حياء وأدبا والذي كان يتحول إلى حديقة من شقائق النعمان تفتحت فجأة لحظة رؤيتها له.. هنا وعند هذا المنعطف كان معتزٌ يشفقُ على جسمها الغض من حمل حقيبة الكتب .. فيسارع إلى أخذها دون أن يتفوه بكلمة.. وكانت هند تبدي تمنّعا مقنّعا وهي تتجنب نظرات الخبث وغمز صديقاتها ولمزهنّ .. تعطيه الحقيبة ببعض الخجل الممزوج بزهوّ فتاةٍ يغلب عليها الإحساس بالتفرّد .. كان معتز يتقدم فوج الطالبات قليلا لاستبعاد القيل والقال من قبل أهل القرية.. ثم يسلّمها حقيبتها قبيل الوصول إلى منزلها بأمتار قليلة.. خوفا عليها من حميّة ابن عمها الذي يخطط لخطبتها حال انتهائها من الثانوية العامة..
من تحت نافذتها كان يمر في أيام العطل كي تلمحه على وقعِ معزوفة قلبها البكر..
وهنا عند بستان التفاح هذا تذكرُ هند حين أسرعَ لرفعها حين تعثرت ببركة الوحل وسط قهقهة زميلاتها فنهضت مثقلةً بالطين والحرج والامتنان معًا.. ناولها حينها مظلته ومضى..
وصلت هند وطفلتُها إلى مدرستها التي أمضت فيها أجمل مراحل عمرها.. لم تستطع منع دموعها من الانهمار.. كانت يداها تتلقفان الدموع حال نزولها من المحاجر، لتتجنب إشارت الاستفهام التي غطت زرقة عيني الطفلة… وباشرت تحتال لرسم ابتساماتٍ على محياها الكئيب .. لكن وجهها كان مسكونا بالزيف الذي فشل في ترقيع ثوب تماسكها المتمزق بسكاكين الحنين والخيبات … والذي كاد يكشف سوءة مشاعرها المكبوتة في قعر روحها المعتمة ..
قفلت راجعةً وهي تحتضن أوجاعا بحجم الجبال..
ثمة صوت لاتزال تواتراتُه تخدشُ غشاء سمعها: ابنتي لن تكون زوجة إلا لابن عمها فهو له الأحقية بها ..
في ذاك اليوم ذبلت شقائق النعمان في وجهها النضير.. واعتنق وجهَها الشحوبُ والانطفاء..
ثوبُ زفافها خيّل إليها وكأنه كفنٌ توارت بداخله جثةٌ لبقايا إنسانة قتلتها الأعراف والتقاليد التي اعتنقها مجتمعٌ رثُّ المفاهيم شحيحُ القيَم ..
واليوم عادت مع طفلتها التي كان مجيؤها إلى حياتها بمثابة قطعة السكر الوحيدة التي غيرت طعم العمر العلقمي..
والآن … وحدها تتسيّد ذاك الطريق العزيز .. بعد غيابٍ دام ستَّ سنواتٍ عجاف في غربة اجتثت كل بواعث السعادة والاطمئنان من قلبها .. راحت تبثّ الطريق لواعجها .. وتذرف فوق رصيفه عبراتِها ذات الملوحة اللاذعة ..
من بعيد .. وحين بدأت شمس المساء بمغادرة المكان .. سمعت صوت محرك سيارة آتيا من الوراء.. تشبثت بيد طفلتها ونأت بها إلى يمين الطريق.. تمهّلت السيارة قليلا.. تناهى إلى سمعها صوتُ رجلٍ أحدث زلزلةً في قلبها يقول لها : تفضلي سيدتي اصعدي كي نوصلك إلى وجهتك المطلوبة.. جفلت هند من أعماق روحها حين رأت السائق الذي تجمدت يداه على المقود فاغرا فاهُ .. بينما هناك على يمينه تجلس سيدةٌ جميلة كانت تجاهد بحرفيةٍ عالية وبوجهٍ احتشدت فيه غيرةُ نساء الأرض لتفسير ذاك الصمت الصاخب الذي طغى على هدير السيارة..
ثم…. مضى كلٌّ إلى غايته…
التعليقات مغلقة.