لمسة طيف قصة قصيرة بقلم الأديب /خالد العجماوي
ليس كل الحب من لحم ودم؛ كما أنه ليس شرطا أن يكون شبقا مدفوعا بشهوة. نعم أحب هاتين الفجوتين أسفل جبهتها، وهذه الأسنان المرصوفة على فكها الأسفل. لست مريضا بحب الموتى، ولكني أهيم بتلك التي سكنتها يوما روح جميلة، حضرت إليّ عبر هذه الكرة العظمية لتخبرني أني لست وحدي، وأنها معي، ترف حولي ملاكا حارسا، ونديما يأنس بحوارنا في كل ليلة.
وإن لحبي لها حكاية، تصاعدت في نفسي حتى استقرت في جنبات صدري. ذلك أن بعض الحب إيمان، فأردت أن أكتب قصة إيماني.
تعرفت عليها منذ شهور مضت، وكأي طالب مقبل على دراسة التشريح، ذهبت إلى عم (فرج) عامل المشرحة وخازنها الأمين. ولك أن تستشعر تلك الأحاسيس في أيام الدراسة الأولى؛ حين تدلف إلى تلك القاعة الكبيرة، وقد امتلأ هواؤها بالفورمالين، والصناديق مرصوفة حول أضلاعها، بينما تقبع طاولات خشبية قديمة في الوسط، عليها بقايا جسد لإنسان: ذراع، أو ساق، منزوعة اللحم مكشوفة الأعصاب، أو ربما كنت محظوظا لتجد جسدا كاملا لم يقربه مبضع المشرّح بعد، فتجد نفسك أمام جسد كجسدك، يتجهز كي يكشف عن خباياه التي هي نفسها خباياك. وقتها تشعر أنك صرت واحدا من الكهنة، يستقبل أسرار الحياة بين كفيه، وقد دلف لتوه إلى قدس الأقداس، فتهزك مشاعرك في عنف عظيم، وتجد روحك وقد انطلقت في فضاء من التأملات. فلا يكاد يعكر صفو هذا المشهد المهيب سوى عم (فرج) نفسه، بملابسه الرثة، وقوامه القصير، وتلك النظرة الهادئة إلى حد البرود، وهو يفتح الصناديق بغير اكتراث، ثم يحمل ذراعا على كتفه بآلية، ليضعه على إحدى الطاولات الضخمة في منتصف القاعة، تجهيزا للدرس القادم، ثم يمضي.
كان عم (فرج) كاهننا الأكبر، وكان عند الطلبة أهم من رئيس القسم، والعلاقة معه تسمح بالدخول في أوقات مختلفة، في أول الصباح وآخره، وفي العطلات، كما أنها تضمن الاستفراد بإحدى الطاولات، كي تقلب الجسد المسجى كيف تشاء، ولك أن توطد أواصر المودة بأن تعبر عن صدق محبتك بأن تجزل له في العطاء، فتنفتح لك مغاليق تلك القاعة المهيبة.
وضعت كمشة في يده العريضة الخشنة، وتصنعت ابتسامة ود، وأنا أسأله أن أشتري عظاما. مط شفتيه، وسألني إن كنت أريدها هيكلا كاملا.. ناولته كل ما معي. هز رأسه نافيا:
لا يكفي..
نظر إلي وقد بدأت أتعرق. قال بلهجة آمرة:
انتظر هنا.
غاص في ممر مظلم، أو هكذا بدا لي، ومرت دقائق شعرت بها طويلة، ليأتي حاملا كيسا أسود، بداخله شيء مكور..
خذ هذه.
وقبل أن أنصرف غمز بعينه وهو يناولني حمله:
معك رأس بطل.
أي بطل يقصد؟
لما رجعت وضعتها على مكتبي الصغير في غرفتي. كرة عظمية، بتجويفين جميلين، وفم مصفوف الأسنان، بدا كأنه يبتسم في تهكم، أو ربما في سرور وبهجة. كأنها ترحب بي، أو كأنها تتودد إلي كي أرحب بها. رأسها أملس، إلا من خطوط تتشابك عليها كالخريطة، أمسكتها براحتي كأني أمسك بكرة السَحَرَة، أنتظر أن تشع نورا فينكشف لي ما قد خبأه القدر وتخفيه الأيام. راعني ذلك الثقب في جانب رأسها الأيمن. ما سره؟ ولماذا قال عم فرج إنها رأس بطل؟ وضعتها أمامي، وأمعنت في تجويف عينها، ثم أغمضت عيني.
رحيلك السبب.
وهل لنا أن نعدل في تصاريف القدر؟
لم يكن لك أن ترحلي.
ها أنا معك.
‘نعم..لا تذهبي أبدا، كوني هنا على الدوام.
ما أن أغمضت عيني حتى وجدته، كان يركض وأركض، وحولنا الطلقات تصم الأذان، وقد أحاطني بذراعه كأنني جنين نبت من إبطه، وصلنا إلى تلة قريبة، فجلسنا نحتمي تحتها من رصاصات الموت. رأيت حولنا التراب، ورائحة الدم، وأنّات الجرحى. التفتُ إليه فوجدته يلهث بجانبي، كأنه يشبهني! وقد التفت إلي مشجعا، بينما تهدر فوقنا الطائرات كالتناين. أشار نحوها بسبابته، وهو يبتسم في وثوق، قائلا إنها معنا، وأننا لا بد عابرين نحو الشرق لا محالة. سألته بصوت مفزوع:
هل ننتصر؟
النصر حليف المخلصين. وقضيتنا أرضنا.
قد نموت هنا!
لكزني وقد ضحك بصوت علا فوق الهدير:
مرحبا بالموت إن كان سبيلا إلى النصر.
لم يستكن. قفز من مكانه وشدني تحت إبطه وشرع يعبر عبر الطلقات، حاملا سلاحه في يده الأخرى، يمطر به أولئك الذين يهاجموننا، وهم يتساقطون كالذباب. كان يصرخ في هستيريا، أو كأنه يغالب خوفه بصرخاته، فيشجع نفسه الخائفة كي تواصل طريقها إلى الضفة الأخرى. بيد أني شعرت بأزيز مرير يمر بجانب أذني، وصوت طقطقة عظام وانفجار، فالتفت نحوه، وقد تهاوى على الأرض بلا حراك، وخيط من الدم ينبثق من جانب رأسه. وفمه باسم بسمة واثقة في النصر.
أفقت من نومي على مكتبي مع صوت منبه الجوال. فتحت عيني على تجويف عيني الجمجمة أمامي، وتلك الابتسامة تعلو فكيها. عرفت فيها ابتسامة ذلك البطل الذي حلمت به، ورأيت أني فهمت كلمة عم (فرج) حين قال إنها رأس بطل، وإن لم يذكر لي أن روحه لا تزال تسكن عظام الرأس، وأنه يزور كل من يتأمل رأسه وتجويف عينيه!
خياله عريض!
لا تتركه وحيدا.
كأنه يكتب عن جده، وبطولاته في الحرب، وعن موته، وتلك الرصاصة التي وجدتموها في رأسه.
يا لخياله!
رحيلكِ السبب..وحكاياتك التي قصصتيها عليه..
لطالما كان يحب القصص..
لم يكن لك أن ترحلي..
ليس لمثلنا أن يعدل ألواح القدر.
قررت أن أشكر عم (فرج).. سألت عليه بعد أسبوع فقالوا إنه في إجازة طويلة. كنت أشعر نحوه بالامتنان أن أهداني رأس بطل حقيقي، حارب وانتصر، وإن عرف الموت طريقه إليه، إلا أنه قد ترك لنا الكرامة ورجوع الأرض. لما وجدني زميلي أُلح في السؤال عن عم (فرج) سألني، فلم أحاول أن أداري عنه ما وجدت. لما سمع زميلي ما سردته عبس، وقطب حاجبه في شك، ثم ضحك مني ساخرا. قال إني لا بد غرٌّ ساذج، إن كنت قد صدقت أن الرأس لبطل من أبطال الحرب. أجبته بأنه قد زارني في أحلامي، وأنها روحه هي التي تأتيني كل ليلة لتحكي. نظر إليّ زميلي متعجبا، والشك يقطر من عينيه، طلب مني أن آتيه بالرأس في اليوم التالي. لم تعجبني نظرته الشاكة والمتهكمة. أردت أن أفحمه، فأتيت في الصباح، وقد وضعتها في حقيبة جلدية أنيقة. أخذني زميلي في عجل إلى مدرس التشريح..وضعها أمامه وسأله..تفحصها المدرس في عجل، وقال إنها رأس حديثة، ربما لم يمر عليها ثلاث سنوات. نظر إليّ زميلي وقد لفني الذهول، وأصابني الدوار، وجرحني الخذلان. سأله زميلي عما يمكن أن يكون مصدرها. قال إنها في معظمها رؤوس لموتى بلا أقارب، ربما وجدوا في حوادث، أو سجن، أو ماتوا في مستشفى ولم يسأل عنهم أحد.
في المساء وضعتها أمامي. كنت غاضبا، لم أفهم هل منها أم من عم (فرج) أم من نفسي. ولكني شعرت بخذلان كبير. كلمات المدرس كانت واثقة، كما أن سخرية زميلي كانت لاذعة، وشديدة الإيلام. ظللت أتمعن في تجويفاتها وصوت المدرس يرن في أذني كحكم بالموت على ذلك البطل في أحلامي..ثم علا صوته في أذني وهو يقول “حوادث أو مستشفى” ..حوادث!
أغمضت عيني وأنا أتذكر شيئا ما.
كأن النيران تأكل كل شيء، وقد سادت الدنيا صيحات الرجال، وولولة النساء، وبكاء الأطفال.
وجدته يحملني تحت إبطه، وقد نظر بوجهه الصارم إلى الناس المتجمهرة أسفل البناية، ليتأكد أن ثمة أيادي سوف تلقفني حين يرميني من فوق. نظرت إلى عينيه وقد ألهبتها حبات العرق التي تنز من جبهته. ابتسم لي ابتسامة الواثق بلطف الله، رغم قرقعة الأخشاب المدوية وألسنة اللهب التي تلتهم الجدران. نظرت إلى الأسفل فوجدت المسافة بعيدة. أسقطني من ذراعه، وشعرت كأن رحلة السقوط تمتد أياما وليال. كنت أسقط عبر الهواء وعيني شاخصة إلى أعلى، حيث يقف ذلك البطل مطلا من شباك البناية، وألسنة النيران تطل من ورائه، تلتهم كل ما تطاله دون رحمة..امتدت تظراتنا دهورا محفورة في الذاكرة، حتى وجدتني بين أيادي الرجال في الأسفل، وصوت التحميد والتكبير يخترق أذناي. عندها ابتسم لي من أعلى، ثم دخل وسط ألسنة النار. لم يظهر بعدها، اختفى..بعد إخماد الحريق وجدوا جثثا متفحمة، غير أن مواصفاتها جميعا لم تكن تنطبق عليه. قالوا إنه نجا، وقالوا إنه ذاب كأي ملاك قام بواجبه ثم تبخر. لم يعثروا عليه..ولكنه الآن يزورني!
تأثر ابنك بقصة أخيك.
كان بطلا وإن لم يعثروا عليه.
كتب عنه متأثرا بحكايتك عنه.
لا تدعه وحيدا فترات طويلة.
-غيابك السبب يا حبيبتي..
هو حكم القدر، وليس لنا سوى أن نرضى به!
هذه المرة لم أذهب كي أسأل عن عم (فرج)..ذهبت مباشرة نحو زميلي الساخر المتهكم ذاك. قلت إني عرفت خطئي، وأنها بالتأكيد ليست رأس بطل للحرب، ولكنها رأس لشخص مجهول، بيد أني أعرفه، وأعرف بطولته. وأنه يزورني في أحلامي، حيث أراني طفلا يحملني وسط النيران، فينقذني وكثير من الأطفال، قبل أن يذهب داخل ألسنة اللهب مختفيا إلى الأبد. جن جنون زميلي، لم يضحك هذه المرة، وإنما زعق في وجهي، وقال إني مصاب بالجنون. لم أفهم سر غضبه مني، ولكنه خبط على رأسي، وطلب أن أستذكر دروسي في علوم التشريح، وأن الامتحان قد قرب ولا وقت للعبث وخيالي المريض. عنفته بدوري، وصرخت في وجهه كما فعل معي، ثم اتهمته بالسطحية والتفاهة، وأنه جاهل بعالم الروح وما يكون فيها من تجليات. ضحك وقتها ضحكة جلجلت في أصداء نفسي كأجراس الخيبة وهو يقول:
الجمجمة ليست لرجل يا أبله. الرأس لامرأة وليست لذكر.
أجبته ملتاعا:
أنت تكذب!
صرخ في وجهي قبل أن يلوح بيده ويبتعد حانقا:
أنت لم تسمع كلام المدرس وقتها إذن، قال إن البروزات العظمية في الرأس كانت لأنثى..كما أن حجمها يدل على أنها كانت لامرأة في أواخر الثلاثين..
ابتعد زميلي بعد أن قال جملته، اختفى وسط الطلبة كذرة ملح تذوب بين ذرات الماء، أو كدخان سرى في الهواء ثم تلاشى..
يومها رجعت إلى غرفتي وقد تملكني الغضب..أمسكت بالجمجمة فشعرت بضحكتها ساخرة تشبه ضحكة زميلي الوقح. من أنتِ؟ قمت بزيارتي مرتدية حلة البطولة الحربية، ثم لما كشفت أمرك خلعتها في سهولة، ثم تقمصت دور الشهامة منقذة الأطفال وقاهرة النيران. ما سرك أيتها الكرة العظمية؟ تذكرت تلك الفجوة على يمين رأسها..كيف نسيتها وأنا أخالها ذلك الشهم الذي أنقذ الأطفال يوما. هل تحدث النار فجوة في الراس؟ هي ليست له إذن، ولكنه تسرعي وخيالي كما قال زميلي. ما سرك؟ قررت أن أذهب كي أبحث عن عم (فرج) مجددا.
لم يعد ينام..صار نديما للسهر والكتابة..
لا بد أن تستمر الحياة..تكلم معه..
لم يعد يسمع أي نصيحة..هو يغوص في عالمه..
أنقذه من نفسه..قبل فوات الأوان..
لست أقدر عليه وحدي..رحيلك السبب.
لم يعد عم (فرج)..كأنه قصد أن يغرقني في لغز أعيش فيه كل يوم، عبر حلم أراه وأنا أحدق في هاتين الفجوتين..لماذا قال رأس بطل رغم أنها رأس أنثى؟ هل كان يظنها لرجل؟ نفضت الفكرة رافضا؛ إذ كيف لكاهن المعبد ألا يعرف أسرار المومياء، حتى وإن لم يكن سليل الملوك..
في الليل حدقت طويلا فيها..لن أصدق الأحلام بعد اليوم وإن تلبست صورة الأبطال، رجلا كانت أو امرأة..لم أعد أؤمن أن روحا من عالم الأبطال تسكن فيها. وما حاجتي لعالم الأبطال؟ بطلة أنثى!
من تكونين؟ عشتار؟ أفروديت؟ حتشبسوت أو كليوباترا؟
لن أصدق أي روح منهن..كلهن ذهبن إلى عالم من الذكرى، ولا مكان عندي إلا للحم والدم..
مر عبير خاطف عبر أنفي. انتبهت حواسي كأنني كنت في غفلة قبل صحو. وشعرت بقشعريرة تسري عبر جسدي وقد مرت لمسة على وجنتي. كان العبير قديما ومحفورا في الذاكرة، وكذلك كانت اللمسة كأنها حضرت إليّ من الأزل. صدمتني الحواس، وقرعت في وجداني أن صدّق ما تحسه كأنك تراه. كان عبيرا أجمل من أفروديت، وكانت لمسة أعذب من جمال عشتار. وكان كلاهما قديما مغرقا في القدم. كأنهما منبع كل عبير في هذه الدنيا، ومكمن كل لمسة شعرت بها الموجودات في هذا الكون. سمعتني أبكي..ليس بكاء مكتوما ولكن بكاء افتقاد، وبرد وجوع. وشممت ذات العبير تارة أخرى، وشعرت دفئا يحوطني من جميع جهاتي، ثم شعرت بفمي يمتليء عبر نبع نهر من لبن..فسرت في كياني سكينة واطمئنان وشبع.وذاك العبير يدخل أنفاسي فيخالطها اختلاط أطياف النور، وتلك اللمسة على وجنتي ترسم على ذاكرتي لوحتها الأبدية. عرفتها. لا مناص من الإيمان بها..كانت هي..كانت أنتِ..
صار يكتب عنكِ.
لا تدعه وحيدا.
في الكتابة علاج وعون.
ولكن خياله جموح، وأخشى عليه أن ينفلت من كل واقع.
يراك عشتار وأفروديت!
هذا من أثر كتبي التي كنت أقرؤها عليه..
زرعت فيه الخيال ثم تلومينني عليه! شقية أنت!
كنتُ عالمه..
وعالمي!
أنت أوزوريس قصتي..
وأنت إيزيس..وابننا حورس.. بيد أنك تركتنا نعاني الغياب، وليس في طاقتي أن أعيدك إلى الحياة!
ليس مطلوبا على الدوام أن يعلن المؤمن عن إيمانه..قد ينبت في وجدانه سرا، فيرويه من فيض روحه حتى يتأصل في نفسه؛ فتنبت جذور في أعماق ذاته حتى لا يكون ثمة سبيل إلى التفريق بين نفسه وإيمانه. وهكذا كان إيماني. لم أخبر زميلي، ولم أعد أبحث عن عم (فرج) أو أهتم للغزه. كنت أرجع آخر النهار بعد دروسي الطبية الشاقة، فأقضي وقتي مع الاستذكار حتى منتصف الليل، ثم أنعم بهذه الخلوة بيننا..أنا وهاتين الفجوتين الغائرتين أسفل جبهة ملساء. تطلين عليّ منهما، فيأتيني الطيف ويمر بي العبير. كنت موجودة من البداية ولكنه إيماني القليل وقتها ما أعماني عن هذه الحقيقة. صوتك كان يمر عبر نفسي وأنت تحكين عن جدي، حين عبر إلى الضفة الأخرى من الأرض، حاملا سلاحه فوق منكبه. كنت أراه يحيطني بذراعه كأنني جنين منه، ولم أدرك أنه أنت، صوتك الذي كان يحكي، فجعلني جنين يحملني وقت المعركة. ولم أفهم أن قصة خالي المفقود حين أنقذ الأطفال من حريق في الحي القديم هي نفسها التي تراءت لي، وقد حملني على ذراعه تماما كما كنت تحملينني..كنت أنت في كل وقت!
تذكرين حين قصصت عليّ قصة إيزيس..سألتك كيف استطاعت أن تعيد حبيبها إلى الحياة، قلت إن الإيمان يفعل كل شيء، وقلت إنه بالإيمان تتحرك الجبال، وإن حبها كان إيمانها، ثم تراجعت في الأخير وقلت إنها من الأساطير القديمة، وإن الأساطير تحلق في خيالات وأوهام. أسألك الآن: هل يستطيع الإيمان أن يعيدك إلي؟ فإن كان لا فكيف يحرك الإيمان الجبال؟ أ و ليس حبي لك إيمان إلى حد اليقين؟ ما الذي يمنع أن تعودي إذن؟ أعلم أنك قد عدت إلي في روحي ونفسي، وأنك تحاورينني من خلال سطوري، ولكني أريدك لحما ودما..أن يضمني عبيرك وجسدك لا مجرد طيفك..ما الذي يمنعنا من اللقاء؟
هاجت نفسي، وفاضت دموعي، وأنا أنظر إلى هاتين الفجوتين أسفل جبهة ملساء..راعني ذاك الثقب في رأسها. إنه هو ما أخذك مني. ذلك الشر الذي نبت في دماغك، فكبر رويدا رويدا حتى” استغول” على جسدك، فجعلك أمامي هزيلة، ضعيفة عن الحراك، بعينين غائرتين، وحروف تيبست عن النطق. لا بد أن أنزع ذلك الشيطان!
دخلت عليه غرفته. كان هائجا..
حذرتك من أن تتركه وحده!
كان ينتفض من البكاء، وهو يحمل رأس العظم.
يا ألطاف الله!
وجدته يقول إنه سينزع الشيطان من الثقب في الرأس.
ألطف بولدي يا رحمن!
قلبت في الرأس بين يدي ولم يكن هناك أي ثقب!
رأسي يؤلمني..صداع حاد..رؤيتي مشوشة..
لا تذهبي!
لا تتركه وحيدا..
عنفني أبي..أمسك بالرأس وصرخ..قال إنه لا يوجد أي ثقب..وأنه لا بد أن أستفيق. قال إنه كان يراقب ما أكتب..هل آمن به إذن أم أن حاله كزميلي وعم (فرج)؟ أعرف أنك تريدين أن أذهب إليه وأعتذر..صحوت في الصباح وفي نيتي أن أقابله في المساء بعد انتهاء دروسي، وأن أعتذر له عن تلك اللوثة التي أصابتني في غرفتي. ذهبت إلى قاعة المحاضرات متأبطا كتاب التشريح، ولمحت عم (فرج) أمام تلك القاعة المهيبة والفواحة بالفورمالين..أخيرا ظهر..سألته مباشرة عما يقصده من كلمة بطل. نظر إلي متعجبا وقد رفع كتفيه. قال إنه يقصدني أنا، لأني من اشترى منه الرأس فهي بذلك رأسي. قال مبررا: كنت أشجعك.
أي تشجيع هذا يا أبله! عشت أسابيع أنتظرك كي تفك اللغز وفي الأخير تقول إنك كنت تقصدني!
تركته دون أن أنبس بكلمة. وفي المساء استجمعت شجاعتي، وقررت أن أذهب إلى أبي معتذرا. كان دائما وحده، في غرفته، يغلق عليه بابه..لما اقتربت سمعت صوته..كأنه يتكلم..ألصقت أذني بالباب. كأنه يحاور أحدا..صوته ممتزج بالنحيب، والشجن، والحرمان..
لم أقدر أن أمنع نفسي. نظرت من ثقب الباب فوجدته ممسكا بصورة وقد بللت وجنته دموع حارة، كان هائجا، وهو يسألها إن كان رأسها لا يزال يؤلمها..
أمي..رحيلك السبب.
التعليقات مغلقة.