ليس من سمع كمن رأى…
قاسم عابد
(( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)) ١٢ طه
من أي الأبواب ينفتح المشهد؟ ومن أي النوافذ يمكن الأطلال على هذه الواحة الوافرة الظلال؟ ومن أي الأسوار الشاهقة يمكن مقاربة المعنى في أم الدنيا حيث يتلفح التاريخ بالأسطورة ويمتزج الحاضر بالماضي المستمر وتتعايش الأعماق مع الأفاق. ثمة أشياء واشياء خفية تشدني إلى مواطن الحضارات النهرية واولها الحضارة المصرية الراسخة في أعماق التاريخ، وحضارة بلاد الرافدين والكنعانيين، وحضارات الهند والصين واليونان وروما. ربما كان ذلك الانشداد الآسر للحضارات النهرية الخالدة بحافز تخصصي في فلسفة التاريخ والحضارة ودوافع كثيرة أخرى لا أعلمها! إذ اشتغلت ولازالت منشغلا في مسيرة المغامرة الإنسانية الحضارية منذ فجر التاريخ البشري العام. وقد سنحت لي الفرصة لزيارة حضارة بلاد الرافدين، وشاهدت اثارها التاريخية العظيمة ( أطلال حدائق بابل المعلقة وثور أشور المجنح وأسد بابل وتدمر في الشام والبتراء في الأردن وحينما زرت مصر لأول مرة وأنا في طريقي إلى المغرب العربي بغرض التفرغ العلمي بجامعة سيدي محمد عبدالله بفاس. مررت في أم الدنيا التي اعرفها قبل أن تعرفني؛ عرفتها من كتب التاريخ والحضارة. مِصر ، هبة النيل، أم الدُنيا، أرض الكنانة ؛ تلك الكلمة المكتوبة على أجنحة التاريخ والحضارة منذ أقدم الأزمنة، تلك البلاد الباذخة بالدلالات والأخلية التي ينثر النطق بها كنانة شاملة من الحنان والمحبة؛ أم الدنيا، الزاخرة بالرموز والمعاني الخالدة: إيزيس أمون، رمسيس حورس، ابو الهول أهرامات الجيزة، اخناتون، نفرتيتي، كليوباترا، ارخميدس، هيباتيا، والأنبياء موسى ويوسف وهارون وعزيز مصر، وزليخا، وافلوطين وعمر ابن العاص، ونابليون، وحجر رشيد، ومحمد علي باشا، والأزهر الشريف وسعد زغلول وأحمد عرابي وطه حسين والعقاد وأم كلثوم واحمد شوقي وأحمد زويل، ونجيب محفوظ، والعندليب الأسمر ورياض السنباطي وهدى شعراوي وعلي عبدالرزاق وغيرهم من الرموز والنجوم المتلألأة في ليل تاريخ الشرق الطويل الذين يصعب حصرها بهذه العجالة. لقد كانت مصر بالنسبة لي حلم الطفولة، عرفتها أول ما عرفتها عبر السينما والتلفزيون، عبر المسلسلات والافلام ، ثم من خلال قرأتي للرويات الصادرة من ادباءها ثم عبر كتب الفلاسفة والمفكرين المصريين الذين اضاءوا سماء الفكر العربي الحديث والمعاصر بنتاجهم الفكري والثقافي المتواصل. عرفت لهجتاتها ، واماكنها، من كتاب السر وروايات بين القصرين والحرافيش، وعمارة يعقوبيان، وعزازيل وعبقرية المكان، وتكونت لي صورة متخيلة عن القاهرة والجيزة والصعيد والإسكندرية والزقازيق وسينأ، وقناة السويس وجبل المقطم وكل شيء في مصر لديه تاريخ وذاكرة .. فمن أي الأبواب ينفتح المشهد ومن أي النوافذ يمكن الإطلال على هذه الواحة الأفريقية العربية المترامية الأطراف والوارفة الظلال ؟ ومن أي الأسوار يمكن تسلق قلعة التاريخ والحضارة الإنسانية الراسخة العمق في قلب الأرض؟ وكيف يمكن فك شفرات رموزها الصامتة؟ حينما تكون في مصر يجب عليك أن تجمع قواك العقلية والنفسية والجسدية كلها أن أردت التكيف مع إيقاعها الزاخرة بالدينامية الفاعلة. في شرم الشيخ درة البحر الأحمر شاهدت أم الدنيا في كامل آلقها وجمالها؛ مدينة لا تنام تشع بالأنوار ليل نهار هي في الوادي المقدس طوى كلم الله سبحانه وتعالى نبيه موسى. في طور سيناء تتمنى أن لا يأتيك النوم فكل شيء هنا جميل وحميم ومبهج. إنها عبقرية المكان وذاكرة الزمان. والجغرافيا تحضر بطرق شتى لكن التاريخ هو ذاكرة المكان والزمان. وفِي مصر فقط يمكن رؤية ذلك العناق الخالد بين المكان والزمان، بين الجغرافيا والتاريخ، بين الناس والوطن بين الخاص والعام. هنا الدولة العربية الأكبر سكان قرابة ١٢٠ مليون نسمة تنمو وتزدهر وتسير بثبات صوب المستقبل رغم الحصار الشديد الذي يطوقها من كل حب وصوب. أنها أم الدنيا كانت وسارت ودامت وستظل.
هنا في درة البحر الأحمر وعلى شواطى طور سينا عقدنا مؤتمراتنا الدولي الأولى بعنوان( مناهضة التمييز والعنف ضد المرأة؛ تمكين مساواة تنمية مستدامة) كانت فرصة طيبة لالتقاء بنخبة متميزة من الباحثين والباحثات العرب في قاعة المؤتمرات بمنتجع Jolie Villee الواسع الرائع. مدينة شرم الشيخ الواقعة على الطرف الشمالي من البحر الأحمر تشبه- مدينة عدن الواقعة على الطرف الجنوبي من ذات البحر – في طبيعتها الساحرة ولكنها تختلف عنها فراسخ كونية في الترتيب والنظام وجودة الخدمات والأمن والآمان واشياء كثيرة أخرى.
التعليقات مغلقة.