ليس من فراغ بقلم أحمد فؤاد الهادي
الكاتب لا يكتب من فراغ مطلق، حتى لو كتب عملا خياليا، لابد من جذوة من الواقع تشعل فتيل قريحته فينطلق فكره لإبداع جديد مستخدما موهبته ورصيده الثقافي وما حصله من مفردات وفنون اللغة.
وقد تكون الجذوة كامنة في صدره منذ سنوات طوال، ولكن حرارتها وإن خبت وكأنها فد تلاشت، نعاود تأججها من حين لآخر، حتى يصادف هذا التأجج انفعالا وتفاعلا في صدر الكاتب فيطلق قريحته نحو إبداع جديد.
واسمحوا لي أن أتخذ من حالة عايشتها مثلا، فقبل ستين عاما، بينما كنت في الصف السادس الابتدائي، صحبني أبي رحمة الله عليه لتلبية دعوة عقد قران لصديق له يدعى “عم حسن” والذي كان الوحيد تقريبا في عائلته ميسورة الحال الذى حظي بتعليم جامعي، وكان الاحتفال في مكان متسع جدا، وقد مدت فيه الموائد الحافلة بصوان دائرية كبيرة مكدس فيها الأرز بالمكسرات تعتليه شاة كاملة، ويحيط بالصواني أكواب العصائر وأطباق المشهيات، ورائحة الطعام الذكية تملأ الأنوف وتسيل اللعاب وتلقى الضيوف قبل أن يدلفوا المكان ويشاهدوا تلك الوليمة التي لم يسبق أن رأوها حتى في أحلامهم.
جلسنا أمام واحدة من تلك المواقع أنا وأبي وثلاثة من أصدقائه، تبادل الجلوس بعض الكلمات التي لم تزد عن المجاملة والدعاء المتبادل، وكنت صامتا أراقبهم جميعا حتى أبى الذى كان شكله مختلفا عما أراه في البيت، كان الكل متحفزا للانقضاض على ما كاد أن يلامس عينيه من طيب الطعام، ثم خرست الألسنة، وامتدت الأيادي كالوحوش الكاسرة، وساد المكان على رحابته صمت رهيب، وتعالت أصوات الملاعق وهي تهاجم الأرز والسكاكين وهي تمزق اللحم، وأحيانا يعلو صوت شخص وقد أصابته الحازوقة، الناس يزدردون كل شيء ازدرادا، وكأنها آخر فرصة في حياتهم للأكل.
فرغ أبي وأصدقاؤه من مهمتهم، وكنت قد فرغت قبلهم بوقت طويل، وهم الجميع بالقيام للانصراف، وما أن استقبلتنا نسمات الهواء البارد في الشارع، حتى بدأ أبى وأصدقاؤه في التعليق على ما عشناه من دقائق، فأثنى أبي على “عم حسن” وعائلته وكرمهم الزائد، ورغم أنني لم أشاركهم الحديث أدبا، إلا أنني كنت أوافق أبي تماما، وكانت المفاجأة أن أصدقاء أبي كانوا يسخرون من قوله، وأخذوا يعاتبونه على هذه المجاملة التي يروا أنها ليست في محلها، كانوا يسخرون من كل شيء، حتى من “عم حسن” نفسه وعائلته، فلما أبدى أبي امتعاضه من افترائهم، واجهوه بحجتهم: “إننا لم نجد مكانا لنغسل أيدينا بعد الأكل”
كنا قد اقتربنا من نقطة الافتراق لنقصد بيتنا، تركهم أبي صامتا، نظر إلى وأنا أبلغ ركبته، وكأنه خشي أن أكون قد فهمت ما سمعت، فرأى كل شيء مرسوم على ملامحي، وأكملنا خطواتنا إلى البيت صامتين.
كنت لا أدري أن جذوة قد زرعت في صدري مما رأيت وسمعت، وبعد ستين عاما أشعلت فتيلها وفجرت بركانها، وأطلقت الومضة التي عبرت فيها عما حملته تلك الجذوة:
خسة: طعموا وليمته؛ مسحوا أيديهم في سيرته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد فؤاد الهادي – مصر
التعليقات مغلقة.