ليلى بقلم مجدي سالم
ليلى
بقلم/ مجدي سالم
أدخل مرسمي أتيه خيلاء مزهوا.. ألقي بنفسي على ذلك الكرسي الهزاز الذي اخترت له مكانا مميزا في ركن الأستوديو.. أضأت مصباح الركن المتدلي فوق رأسي.. أشعر بدفء وراحة ورضا.. أنفث بهدوء دخان سيجارتي في الهواء وأرقبه يتصاعد.. أتخيل كيف سيكون رد فعل الوسط الفني والمثقفين.. قبل باقي الناس.. حين أعرض لوحتي التي أنهيتها ليلة الأمس في معرضي القادم.. وأكاد أسمع- من الآن- صيحات الدهشة وعبارات الإعجاب بالإبداع الذي فاق الجيوكندا تتردد في كل مكان.. إنني متأكد من تفوقي على دافنشي في إظهار الأبعاد الثلاثة في لوحتي وفي اختيار زاوية التصوير ودرجات الألوان في لوحتي..
- لم أتردد للحظة واحدة في اختيار إسم للوحة.. إن الإسم يفرض نفسه.. .. ” ليلى”..
لا أنكر في داخلي كم المعاناة التي عشتها كل يوم حتى أصل إلى حالة فريدة من الرضا عن ملامح الحسناء الحالمة إلى كنت أرسمها.. ودرجات الإنارة على وجهها وفي غرفتها في الخلفية.. وحتى على المقعد الوثير الذي تجلس فيه.. قصدت أن أجعل بطلتي تحتل جانب اللوحة حتى أظهر البراعة في رسم أثاث الغرفة.. والظلال التي توزعت في باقي الصالون.. وتخيلت وكأن هناك مشاهدون يتابعون جلستها وكأنها على خشبة مسرح أنيق.. في إحدى الروائع الكلاسيكية..
أبتسم في أعماقي وأنا أعترف لنفسي أنني لا أعلم إن كنت وقعت.. مثل قيس.. في هوى ليلى.. إنها الموديل البديعة الجمال التي كان لجمالها الفتان الفضل في خروج اللوحة بهذا الإبداع.. كان الشعور يتزايد كل يوم بإنها تتغلغل في أعماقي وأنا أغوص في ملامحها.. وتشتعل أناملي نارا وأنا أمس وجهها أصطنع أني أديره كي أعدل من زاوية ميله.. أو وأنا أغير من وقت إلى آخر تهدل خصلات شعرها.. أسقط بعضها حينا على كتفها أو أزيحه عن جبهتها الناصعة التي ملكت علي شعوري.. ويبدو أن تلك الشفاه القرمزية الصغيرة والأنف الروماني القصير قد ملكا علي شعوري.. ناهيك عن وجناتها الوردية.. وذلك الجسد النحيل الذي زاد اتساقه من روعة اللوحة وأضاف إليها بعدا حسيا واضحا في خطوتي وفي مساحات فرشاتي.. وإن لم تواتني الشجاعة أبدا أن تذهب يدي إلى هنا.. أو أن تغوص عيني هناك..
لكن الحقيقة العارية التي حاولت أن أخفيها.. أنني وددت لو أنني رجوت ليلى أن تبقى لدي للأبد.. في الوقت كنت أدفع لها أجرها وقد أنهيت اللوحة.. التي طالما تمنيت ألا أنهيها..
لماذا.. نحن دوما لا نعترف بالحقيقة.. لماذا نخاف أن نواجه أنفسنا على الأقل.. إننا ننفعل كرجال وكنساء ونتفاعل مع ملامح وطباع وأصوات وأجساد من نقترب منهم.. نتعمد أن نخفي أنها لا تشبع العيون من مجرد النظرات.. وتحلم الأيدي أن تمس ما نراه بعيد المنال.. بل قد نحلم في مخادعنا بأشياء نخجل منها.. وقد نرحل إلى أحداث نتوهمها.. فيعيش الخيال في الحلم ما يعجز الواقع عن تحقيقه.. مهما هرمنا.. ونجد دائما في مسمياتنا المنمقة الكاذبة للأشياء مهربا ومخرجا..
والحقيقة أننا نحب ما نطلق عليه التحضر أحيانا ونكرهه أحيانا.. ولا نفشل أبدا في زيف الوصف لما نهوى.. - وأعترف أنني حاولت أن أفرغ ذلك الميل الهائل إلى الأنثى.. أو إلى ليلى.. في إبداع الملامح وتعدد الألوان والسهر على التعديل للأجمل بعد أن تذهب.. كنت أكمل الصورة من خيال لا يغفل عن تذكرها.. وأعترف أنني الآن في حالة شوق إلى استعادة تلك المشاعر الرائعة التي كنت أعيشها في وجودها بينما كنت أرسم اللوحة.. وأعترف أنني كنت أنتظر مواعيدها.. وأترقب وصولها.. لكنني كنت أخفي ذلك الشوق إليها حين تصل إلى الأستوديو.. وكنت أشفق من بعثرة شعرها أو ملبسها بينما كانت في الطريق إلى.. وكنت أضطر أحيانا أن أترك لها المكان لبعض الوقت كي تعيد زينتها إلى هيئتها.. كي أعود إلى استغراقي في حلمي.. إلى لوحتي..
- قمت من مكاني يدفعني شعوري وأشواقي إليها.. ذهبت إلى مكان اللوحة في موضعها الحبيب.. اندفعت.. أزحت الغطاء عنها..
وكانت المفاجأة المذهلة.. يا الله.. لا أصدق ما تراه عيني.. يا الله.. إن قلب اللوحة ووسطها وأكثر من نصفها قد تغطى باللون الأبيض.. وباللون الأسود.. قد تسلل أحدهم إلى المرسم واغتال لوحتي وقتل حبيبتي وفتك بحلمي.. إشتعل رأسي واستشاط غضبي.. إنه جهد شهور.. بل هو حلم عمر.. وهو نجاح يتبخر.. من فعل هذا بمعبدي.. من بلغت به الخسة أن يسفح دمي.. أن يقتلني وأنا نائم.. وقفزت الدموع من عيني.. هويت على أقرب مقعد أجهش بالبكاء.. وعلا صوت أنيني حتى أنني لم أنتبه لخطوات حفيدتي.. التي دخلت الأستوديو ولم أشعر بها.. نظرت إلى وجهي فخجلت من دموعي ورحت أستدير.. وسمعتها تسأل.. - سوفت..؟؟ أنا رسمي حلو يا جتو..؟؟…
التعليقات مغلقة.