مئتان جنيه
بقلم المهندس / أسامه أنيس
قصة مستوحاة من صورة الجنازة لجوستاف كوربيه التى نشرت على جريدة على باب مصر
يوم شتاء بارد … احتشدت الغيوم الداكنة فى السماء واحتلتها وإن كانت لم تفرغ أثقالها … الهواء يسابق المارة فى الطريق ويسبقهم والكل يتدثر فى ملايسه الثقيلة الداكنة ، ويملأون الأرصفة متوجهين إلى أعمالهم … على جانب الرصيف فرشت بائعة الجرائد بعض الألواح وعليها غطاء رصت عليه الجرائد والمجلات والكتب وفى المقابل شرطى المرور يقطع الطريق ذهاباً وأياباً فى حركة سريعة أستجداءاً للدفء …
تحت أحد العمارات التى تطل على الشارع جلس الصديقان “سعيد” و”علي” على مقهى الأمل القريب من مقر عملهما، يتناولان أفطارهما ويشربان الشاى الساخن … على أحد حوائط المقهى شاشة تليفزيون تعلن عن برنامج “الحياة حلوة”
فجأة تدوّى صافرات يعرفها الناس جيدا … أُغلق الطريق المزدحم بسرعة وأُخلى تماماً فلم تعد هناك سيارة به… جاءت سيارة من سيارات التصوير الخارجى للتليفزيون واتخذت مكانها فى مدخل طريق جانبى … عساكر يصطفون على الجانبين بزيهم الأسود تتصاعد مع أنفاسهم أبخرة الضجر والبرد فى وجه هواء يكاد يخلع عنهم ثيابهم ويقتلعهم من مكانهم …بدأ المارة يتوقفون على جانبى الطريق ليشاهدوا الموكب عند مروره … بينما كان “سعيد” و”على” يستعدان لمغادرة القهوة بعد أن تكفل “علي” بحسابه وحساب صديقه
وقف الصديقان على الرصيف خلف المتراصين يتبادلان حديثاً سريعاً فى الوقت الذى بدأت صوت الصافرات يعلو معلناً اقتراب الموكب الذى لاح من بعيد بالسيارات الفارهات المارقات السوداوات … لم يعد يسمع إلا صوت قدوم الموكب الذى يمرق سريعاً
وفجأة تحرك “سعيد” متجاوزاً ومزيحاً كل ما (ومن) أمامه بأقسى سرعة حتى بلغ حافة الطريق … صرخت بائعة الجرائد (حاسب يا ولدى) وصرخت بعض النساء على الرصيف بينما وضع شرطى المرور يديه على رأسه وأدار وجهه ، كان “على” ينادى على صديقه ( انتظر يا سعيد … يا سعييييد) …. كل هذه الأصوات وحتى صوت الصافرات والدراجات البخارية لم توقف “سعيد” لحظة وهو ينطلق فى عرض الشارع وقت عبور الموكب وكأنه تزامن معه … فصدمته احدى المارقات السوداوات صدمة قوية حاسمة ، طار “سعيد” فى الهواء وارتفع وسقط فى لحظات مرتطماً متقلباً على الأرض ثم استقر يفرفر كطائر ذبيح … وبدا اللون الأحمر مندفعاً ليكسو الطريق … بينما مرق الموكب بلا توقف إلا دراجة بخارية توقفت للحظات بجواره وسائقها يتكلم فى جهازه الخاص ثم عاد وأكمل سيره لاحقاً بالموكب
جثا “علي” بجوار جسد صديقه وأخذه بين ذراعيه وهو يرتجف واحتضن رأسه المهشم فسكن الجسد المرتعش … مات “سعيد” … أخذ “علي” ينظر إلى صديق عمره ويحدثه وهو يضمه بصوت خفيض لم يسمعه غير “علي” نفسه … ثم تراخت يداه وسقط غائباً عن وعيه
تجمع المارة وبعض العساكر حول جثمان “سعيد” ، وحمل بعضهم “علي” بسرعة إلى المقهى الذى كانا قد غادراه من دقائق … أحدهم سارع يتصل بالإسعاف وبائعة الجرائد أفردت صغحات من الجرائد فوق الجثمان لتغطيه وشرطى المرور أخذ مهمة ابعاد الناس الذين كانوا يتبادلون تفاصيل الحادثة … كان البعض قد تجمع فى المقهى يمسحون وجه “علي” بالماء بعدما أجلسوه و أحدهم يمسك بيده يدلكها ويحاولون إفاقته …
أفاق “علي” تائهاً وتلفت حوله وانفجر فى بكاءً هستيرياً، وصاحب المقهى يواسيه ويربت على كتفه بعطف ويسقيه بعض الماء، وإذا بصوت بجوار “علي” يقول ( أنا شاهد أنه اندفع وحده وانتحر)
صرخ “علي” (سعيد غلبان لم ينتحر) … بدأ “علي” يتحدث لمن حوله … كانت كلماته تسحبه من زنزانة أحاسيسه المؤلمة وكأنه قادم إلى عالمنا من عالم آخر … ثم يعود ليصمت ويبكى ثم ينتفض ويكمل ويعود ليمسك رأسه ويتفحص من حوله ويكمل … لم يكن يعرف ما قاله فيعيد بعض منه ونظراته تجوب الكون دون أن ترى شيئاً … لم يكن هناك من يتكلم غيره والكل يتابعه … صاحب المقهى ألغى الصوت من شاشة التليفزيون … كرر ثانية (سعيد غلبان لم ينتحر)
“سعيد” وحيد ليس له أخوة … يعيش مع أمه بعد رحيل أبيه من سنتين ونصف … كنا معا سنوات الدراسة وعملنا معاً فى الشركة … هنا (يشير بيده) … “سعيد” أكثر من أخ ولم نكن نفترق
منذ عام عرفنا أن أمه مصابة بالقلب وفى حالة حرجة … تلزمها جراحة ولكن قلبها الواهن الرقيق لا يحتمل جراحة كتلك التى تلزم … كان الحل الوحيد لحالتها كى لا تلحق بوالده أن تحقن مرتين كل يوم ، وكانت تكلفة المرة الواحدة مثتان جنيه … بدأ الهواء يشتد وصفيره يُسمع ليذكّر “علي” … أنصت قليلاً ثم عاد يكمل … مرض أمه بدد كل ما لديه ومعه تبدد حلم الزواج من حبيبته “ليلى” … “سعيد” عمل المستحيل ليوفر هذه الحقن التى لم تكن متوفرة دائماً … راتبه كله ومعه نصف راتبى كان قليلاً … باع بعضا من أثاث بيته وباع قبله كل ما له قيمة لديه … راح “سعيد” يستدين من الأقارب والجيران ثم ممن يعرفهم … من أقرضه مرة واثنتين لم يكررها وهو يعلم انه لن يستطيع الرد …
برقت السماء فبدا وميض البرق كومضات الفارهات المارقات … هذا الصباح جاء يبكى فمديرنا رفض أقراضه من راتب الشهر القادم الذى أقترض بالفعل أكثر من نصفه ، فأستدنت المئتين جنيه من المدير وتعهدت بردها من راتبى … لم أخبر “سعيد” فلديه من الألم ما يفيض … وطلبت منه أن نفطر معاً قبل أن يتوجه لشراء الحقنة
دوّت مدافع الرعد وكأنه يسكت الجميغ فسكت “على” لحطات ثم عاد … أخبرته أننى دبرت المبلغ وأخرجت الورقة من جيبى وأعطيتها له … تركت الورقة ظناً منى أنه أمسكها فإذا بالهواء يطيّرها قبل أن يقبض عليها فأندفع وراءها … كانت الورقة فى هذه اللحظة أغلى منه ومن حياته كلها ، كانت ورقة تساوى حياة أمه فلم ينتبه للناس ولا العساكر ولا صافرات الموكب ولا الموكب نفسه … لم يكن فى عينيه إلا ورقة المثتين جنيه …. انفتحت السماء بمطر كثيف
مد “علي” يده فى جيبه وأخرج ورقة المئتين جنيه … كانت ملطخة بدماء “سعيد” الذى مات وهو قابض عليها … فى هذه اللحظة دخل المقهى إثنان توجها إلى “علي” مباشرة وطلبا أن يخرج معهما … حاول صاحب المقهى منعهما فأبعداه وبصوت خشن آمر أخبره احدهما ان “علي” مطلوب … وبينما يغادر “علي” المقهى مع الرجلين لمح شاشة التليفزيون وعليها شريط الأخبار يعلن عن محاولة انتحارية فاشلة إستهدفت موكب الـ …… توقف المطر فجأة … الجميع واقفون يرقبون المشهد فى صمت كامل بلا حركة … كأننا أمام صورة بلا ألوان
إلتفت “علي” ليلقى نظرة على جثمان “سعيد” قبل أن يدخل سيارة الشرطة … كان جثمان “سعيد” لازال فى مكانه وحوله عشرات قليله ولكن المياه كانت قد حلت مكان الدماء …
التعليقات مغلقة.