ماذا تعرف عن إنريكو فيرمي
بقلم : المهندس طارق بدراوي
إنريكو فيرمي فيزيائي إيطالي أميريكي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938م وقَدم إسهامات جوهرية في مجال تطوير الطاقة النووية ويعد أحد العلماء الذين يطلَق عليهم لقب أبو القنبلة الذرية حيث كان ضمن الفريق الذي أنتج أول مفاعل نووي وأول قنبلة ذرية وقام بإرساء نظرية الكم وكان في البداية أستاذًا للطبيعة في جامعة روما بإيطاليا وكان شديد الحماس لكشف أسرار الذرة وذاع صيته في الأوساط العلمية لبحوثه الدقيقة التي كشف فيها عن العنصر رقم 93 في الجدول الدوري للعناصر الذي رتبه العالم الروسي ديميترى مندليف عام 1869م وكان العنصر رقم 92 هو اليورانيوم الذي أصبح فيما بعد ملء الأسماع لأنه كان سببا في إنهاء الحرب العالمية الثانية وقد ولد إنريكو فيرمي في العاصمة الإيطالية مدينة روما في يوم 29 سبتمبر عام 1901م وكان الإبن الثالث لألبرتو وإيدا ديجاتيس فيرمي وكانت والدته إيدا إمرأة إستثنائية فقد تدربت على العمل كمعلمة وتمتعت بذكاءٍ حاد مما كان له عظيم الأثر في تربيتها لأبنائها وقد قيل إن شَغَف إنريكو فيرمي الشديد بعلم الفيزياء كان ناتجا عن مأساة عائلية فعندما توفِي أخوه جيوليو فجأةً وهو الأخ الأكبر والمفَضل له البالغ من العمر 14 عامًا حينئذ أُصيب بصدمةٍ بالغة من أثر هذه الفاجعة فشجعَه والداه على الإهتمام بالدراسة لمساعدته في التغلُّب على أحزانه ومن ثم بدأ في قراءة بعض كتب الفيزياء التي أُلفت منذ نصف قرنٍ مضى وصار مولعًا بها خلال مراهقته وإعتاد هو وأصدقائه على إجراء التجارب الفيزيائية للتسلية ومنها تجربة قياس كثافة إمدادات المياه لروما وفي عام 1918م وكان عمره حينذاك 17 عاما فقط حاز فيرمي منحة للدراسة بجامعة سكولا نورمال سوبروير العريقة بمدينة بيزا الإيطالية الشهيرة ببرج كنيستها المائل والتي تقع في الجهة الغربية من شبه الجزيرة الإيطالية قرب ساحل البحر الأبيض المتوسط
وكان المقال الذي قدمه فيرمي للإلتحاق بالجامعة مثيرا للإعجاب بشدة حتى أنَه سرعان ما تمت ترقيته للحصول على درجة الدكتوراة وتخرج مع مرتبة الشرف في عام 1922م وهو في سن 21 عاما وفي العام التالي 1923م حصل على منحة زمالة دراسية من مؤسسة روكفلر وهي المنظمة الخيرية التي أسسها رجل الأعمال الأميريكي جون دافيسون روكفلر في يوم 14 مايو عام 1914م بغرض تعزيز إرتقاء البشر ودعم العلماء والأبحاث العلمية في جميع أنحاء العالم ويقع مقرها الرئيسي في مدينة نيويورك وأمضى خلالها عدة أشهر في جامعة جوتنجن العريقة بالمانيا بالمدينة التي تحمل نفس الإسم والتي تقع في ولاية سكسونيا السفلي وهذه الولاية تقع في شمال غرب المانيا وتعد ثاني أكبر الولايات الألمانية مساحة بعد ولاية بافاريا وعاصمتها ومقر حكومتها المحلية مدينة هانوفر وكانت هذه الجامعة قد تأسست عام 1734م وبدأت الدراسة بها عام 1737م وسرعان ما نمت هذه الجامعة في الحجم والشهرة حتى أصبحت مدينة جوتنجن من بين المدن التي تلقب بمدن الجامعات إذ يشكل طلبة جامعتها نسبة كبيرة من عدد سكانهاوتعرف هناك وصاحب عالم الرياضيات والفيزيائي الألماني الشهير الذى كان له دور رئيسي في تطوير ميكانيكا الكم ماكس بورن وهي مجموعة من النظريات الفيزيائية التي بدأت في الظهور خلال النصف ألأول من القرن العشرين الماضي بهدف تفسير الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية . وما لبث أن إزدهرت حياة إنريكو فيرمي العملية فقد إختير أستاذًا للفيزياء النظرية بجامعة روما وكان مجال البحث الذي شغل به كثير من العلماء هو تحويل عنصر إلى آخر كما كان الأمر في القرون السابقة عندما حاولوا تحويل الرصاص إلى ذهب فذهبت كل محاولاتهم سدى وكانت ماري كوري قبل ذلك بسنوات قد كشفت عن عنصر الراديوم المشع وأعلنت عن هذا الكشف في يوم 26 ديسمبر عام 1898م وعرف أنه بسبب هذه الخاصية يعتبر مناسبا للتحول إلى عنصر آخر لكن جامعة روما لم تكن تستطيع أن تتحمل تكاليف شراء جرام واحد من الراديوم ليجري عليه فيرمي أبحاثه إذ كان المطلوب 34 ألف دولار لكنه لم يتوقف وأجرى محاولاته على الغاز المشع الرادون الذي يتكون من تحلل الراديوم وهو غاز يتوفر من مصادر طبيعية أخرى إذ قام بوضعه داخل أنبوب إختبار مع مسحوق آخر فوجده يطلق إشعاعات لعدة أيام ثم يتوقف فكان هذا دليلا على تحلله وإستنتج فيرمي أن أنبوبه يعمل كبندقية لإطلاق النيوترونات التي لا تحمل أي شحنات كهربائية ولذلك أسموها المحايدات وكان عليه أن يبحث عن عناصر أخرى يواصل عليها تجاربه ووجد ضالته بعد عنت في عنصر الفلورين الذي أعطى إشعاعا قويا فتحول إلى قذف عنصر اليورانيوم الذي يحمل الرقم 92 في جدول العناصر فوجد أنه يعطي أكثر من عنصر مشع فظن أنه تحول إلى عنصر جديد غير معروف وفي عام 1934م بدأ فيرمي أهم أعماله في أبحاث الذرة بإكتشافه أن التحول النووي من الممكن أن يحدث لأي عنصر تقريبا وكان اليورانيوم من ضمن العناصر التي أجرى عليها عملية الإنشطار النووي وقد أدى هذا العمل إلى إكتشاف أن تهدئة سرعة النيوترونات تؤدي إلى عملية الإنشطار النووي ومن ثم إنتاج عناصر جديدة غير تلك التقليدية المتواجدة بالجدول الدوري وفي عام 1938م حصل فيرمي على جائزة نوبل للفيزياء نتيجة لمجهوداته في مجال النشاط الإشعاعي الإصطناعي الناتِج عن النيوترونات وللتفاعلات النووية الناتجة عن تهدئة سرعة النيوترونات وأقيمت مراسم تكريم فوزه بالجائزة في العاصمة السويدية مدينة ستوكهولم مما أتاح الفرصة له هو وعائلته للخروج من إيطاليا ثم السفر بعدها في عام 1939م إلى الولايات المتحدة للهروب من ديكتاتورية الحكم الفاشي الذي كان قد سيطر على إيطاليا بزعامة بنيتو موسوليني وبذلك لم يكمل فيرمي أبحاثه في روما حيث تلقفته جامعة كولومبيا في نيويورك إذ كانت سمعته قد سبقته بأنه مكتشف العنصر رقم 93 وكتبت صحيفة نيويورك تايمز قصة هذا العالم الإيطالي الذي حاول تحطيم ذرة اليورانيوم فإكتشف عنصرا جديدا .
وفي ذلك الوقت لم يكن البحث العلمي قد عرف أن العنصر الواحد يمكن أن يكون له ثلاث صور متحدة في الخواص الظاهرية ولها خواص أخرى وهو ما أطلق عليه فيما بعد النظائر وتبين أن العنصر 93 ليس غير نظير من نظائر العنصر 92 اليورانيوم ولذلك فرقوا بينها بأوزانها الذرية فكانت يو 234 ويو 235 ويو 238 ووجد أن أكثر هذه النظائر قابلة للإنشطار عندما يقذف بالنيوترونات هو النظير يو 235 لكن كانت العقبة أن نسبته ضئيلة في خام اليورانيوم ولا تتجاوز 0.7% الأمر الذي يعوق إستخدامه بحالته الطبيعية ويلزم رفع هذه النسبة إلى حوالي 4% أو 5% فيما يعرف بعملية التخصيب النووي أو التثرية وذلك حتى يسهل توجيه النيوترونات إليه في الآلات التي تقوم بذلك والتي كانت معروفة منذ عام 1929م بإسم المعجل الرحوي أو السيكلوترون وهو جهاز لتسريع الجسيمات المشحونة وذلك بتسليط مجال كهربائي متردد عليها بمساعدة مجال مغناطيسي يعمل عموديا على مستوي دوران الإلكترونات حيث يعمل المجال الكهربائي على زيادة سرعة الإلكترونات ويعمل المجال المغناطيسي على إجبار الإلكترونات علي الحركة في دائرةويعود الفضل في تصميمه إلي العالم الفيزيائي الأميريكي إرنست أورلاندو لورانس الحائز علي جائزة نوبل في الفيزياء عام 1939م بسبب تصميمه لهذا الجهاز الذى يستخدم بغرض إكتساب الذرات عجلة تسارع بقوى طرد مركزية في مسارات المعجل الحلزونية لكن مقتضيات الحرب العالمية الثانية حينذاك لم تكن تناسب الولايات المتحدة الأميريكية لبناء معجل ولا كان لديها قدر كاف من خام اليورانيوم ولكن لأن الأمر أصبح مبشرا بقرب تحقيق النجاح بعدما إقترح فيرمي إمكان الاستغناء عن المعجل الرحوي بما أسماه الركام فقد قام أسطول من الطائرات بنقل قدر كاف من خام اليورانيوم من كندا والكونغو البلجيكي وهي الكونغو الديموقراطية حاليا ووضع تحت تصرف فيرمي الذي شرع مع زميله المهاجر المجري ليو زيلارد في بناء ركام تجريبي ليكون بديلا للمعجل الرحوي
وكانت هذه الفكرة الذكية التي إبتكرها فيرمي وزيلارد هي طوق النجاة الذي أنقذ أبحاث فيرمي حيث عمد وزميله إلى صف طبقات من اليورانيوم بعضها فوق بعض بحيث تتخللها طبقات أخرى من الجرافيت لتهدئ من سرعة إنطلاق النيوترونات عندما تنقسم ذرات اليورانيوم لكن هذا لم يكن أكثر من إنقسام معملي بينما طموح فيرمي يهدف إلى جعله إنقساما متسلسلا في توال ليتحقق ما قاله آينشتاين عن إنطلاق الطاقة من المادة في عام 1905م فيما عرف بالنظرية النسبية الخاصة وكان في هذا الوقت قد إكتشف أنه إذا تم إطلاق نيوترونات اليورانيوم على اليورانيوم المنشَطِر فبإمكانها أن تتسبب في إنشطار ذرات يورانيوم أخرى مما يحدث تفاعلا متسلسلا والذي يؤدي إلى إنطلاق كميات هائلة من الطاقة . وقد زكى هذا التوجه ما حملته الأخبار من أن الزعيم الألماني أدولف هتلر قد أصدر أوامره إلى جميع العلماء للعمل في بحوث تقسيم الذرة لإستخدامها في الحرب كما كانت قد إندلعت الحرب العالمية الثانية في بداية شهر سبتمبر عام 1939م فشد فيرمي الرحال إلى العاصمة واشنطن في محاولة لإقناع أي من المسئولين بجدوى تبني فكرة أن تفجير كمية من اليورانيوم يمكن أن تكون قوتها أكثر آلاف المرات من أي مفجر آخر وهداه تفكيره مع زميله المجري زيلارد إلى أن أنسب من يدق جرس الإنذار للمسئولين هو أينشتاين نفسه نظرا لمكانته العلمية وصلاته الواسعة فضلا عن أنه على دراية بما كان يجري في المانيا من بحوث في المجال نفسه وأعد فيرمي رسالة يحث فيها الرئيس الأميريكي فرانكلين روزفلت على تبني بحوث تفجير الذرة وما وصلت إليه من مرحلة حاسمة وعرضها عليه وقد وقع أينشتاين الرسالة في شهر أغسطس عام 1939م وكانت نذر قيام الحرب العالمية الثانية قد بدت في الأفق بعد أن أضاف إليها فقرة ذكية نوهت بأن الألمان قد أوقفوا بيع اليورانيوم إلى الدول الأخرى دلالة على تقدم بحوثهم عن الذرة وختم الرسالة بقوله إن الإنسان لأول مرة في التاريخ سوف يستخدم الطاقة التي لا تأتي من الشمس وعلى الفور قرر الرئيس روزفلت تشكيل لجنة شئون اليورانيوم وبعدها أخذت البحوث الذرية في الولايات المتحدة مسارا جديدا وتم حشد رهط العلماء الذين تركوا أوروبا هربا من الديكتاتورية النازية لإستكمال بحوثهم بدعم مكثف من السلطات الأميريكية وكان من بين هؤلاء العلماء أوتو هان الألماني ونيلز بور الدانمركي وجيمس شادويك البريطاني وأوتو فريش وأندرسون السويسريان وإميليو سيجريه الإيطالي والعالمتان إيرين جوليو الفرنسية وليز ميتنر النمساوية وكان كل منهم له باع في بحوث الكيمياء والطبيعة الذرية ولكن كان أكثرهم حماسا هو فيرمي لأنه كان قاب قوسين أو أدنى من تقسيم الذرة بفكرة الركام وفي يوم 7 ديسمبر عام 1941م حدث تحول جذري في مسار الحرب العالمية الثانية عندما قامت اليابان في عملية مباغتة وناجحة بقصف ميناء بيرل هاربور الأميريكي بجزر هاواى دون سابق إنذار في غارة إنتهت بتحطيم الجزء الأكبر من قطع الأسطول الأميريكي الرابض في مياه المحيط الهادي وكانت هذه العملية بمنزلة صفعة قاتلة رهيبة للولايات المتحدة التي كان دورها مقصورا حتي ذلك الوقت على دعم الحلفاء دون الإشتراك الفعلي في الحرب ومن ثم كانت النتيجة الحتمية إعلان الولايات المتحدة الحرب على اليابان فسارعت المانيا وإيطاليا بإعلان الحرب عليها وعلى إثر ذلك إحتدم السباق بين الجبهتين المتقاتلين للوصول لأسرار السلاح الذري لكن الولايات المتحدة الأميريكية كانت قد قطعت شوطا بعيدا في هذا المجال وكانت نقطة الإنطلاق أمام لجنة أبحاث اليورانيوم هي محاولة تحطيم ذرات اليورانيوم 235 فضلا عن أنه في عام 1941م كان قد نجح عالم الكيمياء الأميريكي إدوين ماكميلان والذى كان ضمن علماء مختبر جامعة بركلي الإشعاعي عند تأسيسه في عام 1934م والحاصل علي جائزة نوبل في الكيمياء بعد ذلك في عام 1951م مناصفة مع زميله عالم الفيزياء الأميريكي جلين سيبورج في تخليق نظير نظير اليورانيوم يو 239 والذي إنتهى بعد سلسلة تفاعلات إشعاعية ليصبح البلوتونيوم 239 وتأكد من إمكانية إنشطار ذراته إذا قذفت بالنيوترونات ذات السرعات البطيئة . وبالوصول إلي هذه النتيجة لاح بريق الأمل في إبتكار سلاح يمكن أن يحول دفة الحرب لذلك إتخذت الحكومة الأميريكية قرارا بضرورة الحفاظ على سرية الأبحاث الذرية وشكلت لجنة عسكرية على رأسها الجنرال ليسلي جروفز لتنظيمها وضمان سريتها وأخذت اللجنة إسما كوديا هو مشروع مانهاتن وقد وضعت هذه اللجنة أمامها عدة أهداف رئيسية لتحقيق مهمتها منها تركيز البحوث العلمية في جامعة واحدة بدلا من تعددها وإختارت جامعة شيكاغو لكي يتجمع فيها كل العلماء الأوروبيين والأميريكيين لمواصلة أبحاثهم عن الحصول علي الطاقة من ذرات اليورانيوم وفي الوقت نفسه التمويه على مهمتهم لكي لا يكشفها آلاف الطلبة والأساتذة بالجامعة والعمل على توفير خام اليورانيوم من مصادره الطبيعية في كندا والكونغو لتجميع قدر كاف لمواصلة الأبحاث وكذلك الخامات المساعدة مثل الجرافيت النقي والبورون والكادميوم ونقل المعامل التي بدأت فيها عمليات فصل نظير اليورانيوم 235 لإنتاج البلوتونيوم اللازم لإجراء أول إنشطار نووي متسلسل وعلى الفور تم نقل ركام فيرمي التجريبي من جامعة كولومبيا إلى جامعة شيكاغو ليبدأ عمله في صالة كانت مخصصة للرقص كما إنتشرت حول الجامعة المعامل والمخازن اللازمة لتجميع اليورانيوم والجرافيت النقي والكادميوم ولكي نتخيل مدى الحماس الذى كان يعمل به العلماء المشاركون في هذا العمل فإن التحكم في الإنشطار المتسلسل كان يتم بربط قضبان الكادميوم داخل أكوام اليورانيوم والجرافيت بالحبال بحيث يمكن شدها للخارج أو للداخل للتحكم في معدل الإنشطار وعندما صدرت الأصوات من عدادات جايجر قرب الركام كان ذلك علامة على حدوث الإنشطار ونجاح عملية التحكم فيه على الرغم من أنها كانت تبدو بدائية وقد تم ذلك بعد مرور أقل من شهرين على بداية العمل وفي يوم 2 ديسمبر عام 1942م على وجه التحديد تحقق الأمل المنشود الذي تأكد بالإرتفاع الهائل في درجة الحرارة داخل الركام وكان هذا النجاح هو باكورة نتائج مشروع مانهاتن وغمرت الفرحة العلماء فأبرقوا إلى الحكومة رسالة شفرية نصها الملاح الإيطالي وصل إلى الدنيا الجديدة وأصبح يوم 2 ديسمبر عام 1942م هو المولد الحقيقي أو بالأحرى الأكاديمي لعصر الذرة وسيطرة العلماء على طاقتها وعلى الفور بدأ تطوير ركام فيرمي ببناء مفاعل تتوافر فيه إمكانيات أكثر دقة وأعطى الإسم الكودي إكس 10 لكي يتم فيه تخصيب أو تثرية اليورانيوم لإنتاج البلوتونيوم وجهزت مضخات المياه لتبريد الحرارة العالية التي تصدر منه وفي الوقت الذي باشر فيه العلماء عملهم في جامعة شيكاغو إشترى الجنرال جروفز ثلاث مساحات فسيحة في ثلاث ولايات مختلفة بعيدة عن العمران وشرع في إقامة مدن سرية وتجهيزها ووضع الخطط اللازمة لتوفير وسائل العمل والإعاشة والإخفاء والتأمين والترفيه اللازمة بها وكانت أولى هذه المدن في ولاية تينيسي بجوار قرية إسمها أوك ريدج في وسط الولايات المتحدة وأقيمت حولها مجموعة من المصانع اللازمة تحت إسم وهمي هو شركة كلينتون الهندسية
وكانت مهمتها فصل اليورانيوم 235 من اليورانيوم 238 بعملية التخصيب ولتصور ضخامة أداء هذه المصانع تجدر الإشارة إلى أن أحدها لزم له تصنيع مغناطيس كبير الحجم وزنه يماثل وزن سفينة كبيرة وكانت الطاقة الكهربائية التي إستخدمها مصنع آخر تعادل الطاقة التي تستهلكها مدينة نيويورك بأكملها وكان يعد أكبر المصانع الأميريكية قاطبة وقد واصل العالم الأميريكي إرنست لورانس العمل في هذه المصانع حتى توافرت الكمية اللازمة من اليورانيوم 235 بفصله من اليورانيوم 238 بدرجة التخصيب المناسبة لتصنيع القنبلة الذرية . أما ثانية المدن السرية فقد أقيمت في ولاية واشنطن بجوار نهر كولومبيا في منطقة ليس بها غير قريتين صغيرتين وقد أقيم في القرية الأولى ركام يتكون من ثلاثة أكوام ضخمة لتحويل اليورانيوم 235 إلى بلوتونيوم بينما أقيم في القرية الثانية معسكر كبير يتسع لإقامة ستين ألفا من العاملين وأسرهم تحت مسمى وهمي هو شركة هانفورد الهندسية وقد عمل هذا الجمع الكبير تحت إجراءات أمن صارمة وما إن إنتهى بناء الركام الضخم حتى أخلي معسكر العاملين وقاية لهم من الإشعاع وللسبب نفسه أحيط الركام بجدران خرسانية سميكة مبطنة بألواح الصلب لمنع تسرب الإشعاع خارجه وكان هذا هو أول إستخدام للدروع الواقية من الإشعاع لأن الأمر أصبح مختلفا عما كان عليه الركام التجريبي الصغير في شيكاغو ولم يكن يسمح للإنشطار أن يكتمل في الركام ويوقف بدفع قضبان الكادميوم للتحكم فيه فور ظهور دلائل نجاح الإنشطار كما كانت أكوام الركام الثلاثة مقامة إلى جوار نهر وعملت مضخات كبيرة لسحب المياه منه لتبريد أكوام الركام ثم تحويل المياه للتدفق بعد التبريد إلى المنخفضات المحيطة بالمنطقة لتصبح بحيرات صناعية وكانت المدينة السرية الثالثة قد أقيمت في منطقة جبلية بعيدة عن العمران في شمال ولاية نيو مكسيكو وكانت أقرب قرية إليها تقع على بعد 80 كيلومترا
وأعدت المباني اللازمة لإقامة لفيف العلماء في موقع أطلق عليه إسم لوس ألاموس وقد طليت المنشآت باللون الأخضر لكي لا تفرقها الطائرات عن الأعشاب المحيطة بها وفرضت عليها إجراءات أمن صارمة على مدى سنتين ونصف السنة حيث تجمع فيها نجوم العلماء والذين كان علي رأسهم عالم الفيزياء الأميريكي الشهير روبرت أوبنهايمر والذى كان يعد مؤسس المدرسة الأميريكية للفيزياء النظرية وكان أحدهم فيرمى وكان تجمع هذه العقول الفذة في لوس ألاموس دلالة على أن المسرح الأميريكي قد أصبح جاهزا لصنع أول قنبلة ذرية بتكامل العمل مع ما تم في المدن السرية الثلاثة وبنجاح فصل اليورانيوم 235 وإقامة الركامات الثلاثة وإنتاج قدر كاف من البلوتونيوم ومن ثم أصبحت المهمة الباقية هي الإعداد لتجربة أول تفجير ذري تتويجا لمجهودات غير عادية إستمرت على مدى ست سنوات وأنفق عليها ما يربو على ملياري دولار وكان لابد من الإبتعاد عن لوس ألاموس مسافة تقرب من 350 كيلو مترا في مكان يعرف بإسم صحراء الامجوردو حيث أقيم برج مرتفع من الصلب وجهز بمعدات لرفع القنبلة الذرية إلى قمته وكانت القنبلة التجريبية تحوي كيلوجراما واحدا من اليورانيوم 235 وفي فجر يوم 16 يوليو عام 1945م أسقطت القنبلة من فوق البرج فإنطلقت الطاقة منها بعد جزء من الثانية وخلال لحظات دوى هدير إنفجار مخيف وبزغ ضوء أكثر سطوعا من ضوء الشمس وإختفى البرج الصلب تماما وبعد نصف دقيقة هبت عاصفة هوائية أزاحت قمم الجبال المجاورة بينما إرتفعت في السماء سحابة كثيفة حتى إرتفاع 12 كيلومترا وخلف الإنفجار فجوة في الصحراء قطرها يقرب من كيلومتر وتحولت مساحات كبيرة من الرمال إلى زجاج وقدرت قوة هذا الإنفجار بأنها تعادل تفجير20 ألف طن من مادة التي إن تي التي توصف بأنها مادة شديدة الإنفجار . وقد إنبهر العلماء الذين كانوا يرقبون الإنفجار من معسكرهم البعيد وعبر أكثرهم عن أنهم لم يكونوا يتوقعون أن تكون الطاقة المتولدة بهذا القدر من القوة وأن تكون نتائجها بهذه البشاعة وتأكدوا أن البشرية دخلت عصرا جديدا وكان الرئيس الأميريكي فرانكلين روزفلت الذى بدأ هذا العمل الجبار في عهده قد توفي في شهر أبريل عام 1945م وتولي نائبه هارى ترومان منصب الرئيس ونتيجةً لهذا النجاح تم إبلاغ الرئيس الأميريكي حينذاك هارى ترومان نبأ نجاح أول إختبار للقنبلة الذرية وكان في ذلك الوقت في مدينة بوتسدام بالمانيا مع باقي قادة دول الحلفاء لتقرير مصير المانيا بعد إستسلامها في يوم 8 مايو عام 1945م منهية الحرب العالمية الثانية في قارة أوروبا وعلى الفور كلفت الحكومة الأميريكية عددا من العسكريين بالإعداد لتوجيه ضربة إنتقامية لليابان ردا على مذبحة بيرل هاربور وفي يوم 26 يوليو عام 1945م وجهت أمريكا إنذارا إلى اليابان بأن تستسلم خلال يومين إلا أن رئيس الوزراء الياباني رفض هذا المطلب فأتى الرد في الساعة الثامنة والربع من صباح يوم 6 أغسطس عام 1945م أي بعد عشرة أيام من الإنذار بالإستسلام حيث إستيقظ العالم على كارثة تفجير القنبلة الذرية الأولى التي حملتها إحدى قاذفات السلاح الجوي الأميريكي من طراز ب 29 وأسقطتها فوق مدينة هيروشيما اليابانية ولم تمض غير ثلاثة أيام حتى ألقيت القنبلة الثانية فوق مدينة نجازاكي وكانت كوارثها أشد وطأة وأكثر بشاعة وكانت هذه الهجمات هي الوحيدة التي تمت بإستخدام الأسلحة الذرية في تاريخ الحرب
وقتلت هاتان القنبلتان ما يصل إلى عدد 140 ألف شخص في هيروشيما وعدد 80 ألف شخص في ناجازاكي بحلول نهاية عام 1945م حيث قتل ما يقرب من نصف هذا الرقم في نفس اليوم الذي تمت فيه التفجيرات في كلتا المدينتين ومن بين هؤلاء قتل مابين 15 إلي 20% متأثرين بالجروح أو بسبب آثار الحروق والصدمات والحروق الإشعاعية وسوء التغذية والتسمم الإشعاعي كما توفي عدد 231 شخص بسبب سرطان الدم وعدد 334 شخص نتيجة الإصابة بالسرطانات الصلبة وعدد 334 شخص نتيجة التعرض للإشعاعات المنبثقة من القنابل وكانت معظم الوفيات من المدنيين في المدينتين وبعد ستة أيام من تفجير القنبلة على ناجازاكي أى في يوم الخامس عشر من شهر أغسطس عام 1945م أعلنت اليابان إستسلامها لقوات الحلفاء ووقعت وثيقة الإستسلام بعد حوالي أسبوعين في الثاني من شهر سبتمبر عام 1945م مما أنهي الحرب في جبهة المحيط الهادى رسميا ومن ثم إنتهاء الحرب العالمية الثانية بصورة نهائية حيث كانت المانيا قد وقعت وثيقة الإستسلام قبل ذلك بحوالي 4 شهور كما ذكرنا في السطور السابقة . وعقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية عين فيرمي عضوا باللجنة الإستشارية العامة لهيئة الطاقة الذرية وفي شهر أكتوبر عام 1949م إجتمعت هذه الهيئة لمناقشة تطوير القنبلة الهيدروجينية الأشد فتكا من القنابل الذرية ولكن فيرمي فزعَ من مناقشة هذه الإحتمالية وساهم في كتابة إضافة لتقرير اللجنة أدان فيها إستخدام القنبلة الهيدروجينية بأغلظ العبارات وعندما أمر الرئيس الأمريكي هاري ترومان بتطوير هذه القنبلة متجاهلا تحذيرات فيرمي وآخرين كان منهم روبرت أوبنهايمر ذهب فيرمي إلى مختبر لوس ألاموس في نيو مكسيكو للمساهمة في الأبحاث آملا في إثبات أن صنع قنبلة هيدروجينية عملاقة غير قابِل للتطبيق وإستمر فيرمي أيضا في عمله بمعهد الدراسات النووية بجامعة شيكاغو وهناك تحول إهتمامه إلى فيزياء الجسيمات أو فيزياء الطاقة العالية وأدار أبحاثًا عن أصل الأشعة الكونية والنظريات عن الطاقة المذهلة المتواجدة بالأشعة الكونية وعن الحياة الشخصية لإنريكو فيرمي فقد تزوج من لارا كابون في عام 1928م وكانت طالبة في كلية العلوم بجامعة روما وانجب منها طفلين هما جيوليو ونيللا أما من حيث ديانته ومعتقداته وطائفته الأصلية فقد ولد لعائلة مسيحية كاثوليكية إلا أنه لم يعتنق أي ديانة طوال حياتهوكان قد منح وسام هيوز في عام 1942م نظرا لمساهماته الفائِقة في معرفة الطبيعة الكهربائية للمادة ولأعماله في نظرية الكم بالإضافة إلى تجاربه في دراسة النيوترونات كما حصل علي الجنسية الأميريكية هو وأسرته في عام 1944م وتكريما له وتشريفا لذكراه أيضا أنه سمي العنصر رقم 100 في الجدول الدورى الحديث فيرميوم نسبة إلي إسمه وبحلول عام 1954م أُصيب بسرطان خبيث في المعدة وأمضى الشهور المتبقية من عمره في شيكاغو خَضع خلالها لعمليات جراحية متنوعة وأخيرا توفي أثناء نومه في يوم 28 نوفمبر عام 1954م بمنزله في شيكاغو بولاية إلينوي عن عمر يناهز 53 عاما وقد قامت زوجته لارا بتأليف كتاب عنه بإسم حياتي مع إنريكو فيرمي وإستعرضت من خلاله جانبا من حياتها معه في سيرة ذاتية وإجتماعية بداية من نبوغه وتفوقه في علم الفيزياء وتسلسل صعوده في الجامعات الإيطالية في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي وقصة حصوله علي جائزة نوبل في الفيزياء عام 1938م التي مكنته هو وأسرته من الفرار إلى الولايات المتحدة الأميريكية هربا من نظام الحكم الفاشي في إيطاليا حيث كانت الولايات المتحدة الأميريكية في ذلك الوقت كما وصفتها هي مهد العالم الجديد الذي إحتضن الكثير من العلماء الأوروبيين الفارين من نظم الحكم الديكتاتورية خاصة في المانيا وإيطاليا .
التعليقات مغلقة.