“ماوراء العتمة” قصة بقلم مهاب حسين/مصر.
كلما التفوا حولي.. أزوغ منهم.
أتبخر في ثوان معدودة كخيط دخان، تاركهم خلفي يهرولون، يبثون الإشاعات:
مخاوي جن، يسخره لمآربه!.
أقهقه بصوت عال يزعج جدي في حجرته المنزوية، وهو يهمّ لصلاة الفجر. أشاغبه، فيحذرني من مغبة التلاعب بالعقول.
دلفت إلى سطح المنزل، عبر سلم خشبي قصير. جابهتني سماء مرصعة بأسراب حمام. حدقتهم في غبطة، ثم سرعان ماطرتُ بينهم خفيفاً، فارغاً، بلا هيكل يحبسني، تعابثني ريح منداة برذاذ مطر، وتغمرني سحابات شاهقة البياض. لمحتهم بالأسفل يزفرون في ضيق، يتوعدونني بالثبور وعظائم الأمور؛ كلما شاهدوني أرفرف بكلا جناحي.
طفقوا يرتقون البنايات، متخمين بغيظ مكتوم، يشدون سواعدهم، ويطلقون نشابهم نحوي، وكلما باءت محاولاتهم بالفشل، أعادوا الكرّة خائبين. تماديت بالنشوة أكثر فأكثر، فارتفعت كبالون يناطح الأفق، ويتمرغ في فضاء ناعم تغزه نجوم كالإبر، وتمسح على جبهته برفق.
تراءى لي جنود تحتشد مدججة، بوجوه مقنعة. هشوا الناس بالهراوات وقنابل الغاز. أرى فرقة تجهز ذخائرها، قناصوها يكمنون بأبراج سامقة، يلقمون بنادقهم في توثب..
وأنا أتأرجح مابين صعود وهبوط، بانوا كمسامير صدئة تنهش أديم أرض عجوز متهالكة، تكاد تستر عورتها.
لم أستطع بث ناراَ تحرقهم، غيماً ينذر بسيل يجرفهم..
لكني بدوت كريشة لاتملك سوى الانصياع لزخم تيارات تدفعها نحو التحليق. اشتد جناحي بمرور الوقت، قويت شوكتي، فشعرت بأني أستحيل منطاداً ينخره الغاز، فيطوف ويجول، زاخرا بالساعين نحو التحرر من أجساد جبسية قميئة، تسجن أرواحهم في قفص اللاممكن، وتوقعهم في فخاخ واقع مرير. بزغ الجميع تحتي كدود يزحف، تلتقطه الغربان بمناقيرها، وتفترسه القوارض، وتدهسه المركبات.
تطوحت قرب بنايات.. فوهات بنادق تشرئب من أطر نوافذها.. ومن الأخرى، أياد ممدودة تتقد، وقلوب تتهدج بالدعاء. عصّفْ الليل بدأ هديره المتنامي، أشعر بجسدي يتلبسني من جديد، وخز عظامه عاد يؤلمني، خواء يتعاظم ويتعاظم حتى لفظني خارجه. رصاصات تطيش وتزوم في الهواء، سرعان ماامتصتها دفقات ضوء غاربة.
رفست بقدميي، شوحت بذراعيي.. زعقت، لم يندح صوتي، لكن صداه اجتاحني في ثقل وتؤدة.
التعليقات مغلقة.