ما أصل اللغة الفعل أم الاسم بقلم د.وجيهة السطل
أسعد الله اوقاتكم وزانها . والمغفرة .
سؤال يكثر طرحه وتداوله بين المهتمين بشأن اللغة وفلسفتها .أيهما أسبق في الوجود اللغوي الاسم أم الفعل؟
وأستعين بالله- تعالى –
وأقول:
قضية الاسم والفعل وأيهما أسبق في اللغة،قضية قديمة ناقشها علماء اللغة وأشبعوها اختلافًا وبراهين وحججًا . وكانت أصل الخلاف بين مدرستي الكوفة والبصرة .
فقد رأى البصريون أن الاسم يستقل بذاته، ويفهم معناه وحده ، دون حاجة لزمن أو فاعل .بينما الفعل يتقيد بزمن ، ولايفهم دون مسند إليه . ولما كان المطلق أقوى من المقيد وأصل لكل المقيدات ،كان الأصل في الكلام الأسماء ..
وأما الكوفيون فقد احتجوا بأن الفعل يعمل في الاسم ويؤثر فيه إعرابيًّا .فالعامل مقدم على المعمول في الترتيب ،وأرقى درجة منه. ومن حججهم أن الاسم يؤكد الفعل نحو حزنت حزنًا . والمؤكَّد أعلى رتبة من المؤكِّد . كذلك فإن من الأفعال مالا مصادر لها كالأفعال الجامدة فمن أين أتت ؟ واستندوا إلى أن علة الفعل سببٌ في اعتلال المصدر لذا فهو الأصل .
وحديث النحاة في هذا الأمر منصبٌّ على اسم المعنى بالذات من الأسماء وهي المصادر.
وكان ذلك كله، وهمْ بصدد الحديث عن المشتقات. وانحصر خلافهم في هذا النوع
بالذات .وانصب دفاعهم عليه .
وكلمة مشتق في الصرف صيغة لغوية بنيوية تعني أنك شققت شيئًا فرعًا من أصل . فإذاكانت المشتقات كلها تؤخذ من الفعل ،فمم اشتق المصدر وما أصله اللغوي ؟ ولما كانت الإجابة على السؤال لا تخضع للمنطق ولا للعقل . فقد رأوا واقتنعوا أن من لا أصل له هو الأصل ، وبذا فالمصدر أصل المشتقات .ومنها تفرعت الأفعال التي اشتقت بالمعنى اللغوي المعجمي للكلمة من المصادر التي هي الأسماء .لأنها تدل على حدث يدرك معناه أو مفهوم مجرد عن الزمان . ولما اضطروا لتحديده زمنيًّا ،اختاروا الأزمنة الثلاثة ، ووضعوا الضوابط الصرفية والمعنوية لها .
ولو عدنا إلى الحوار العقلي وأصل اللغات .لوجدنا أن الإنسان الأول احتاج إلى رموز تدل على مايراه، وما يحيط به من إنسان أو حيوان أو نبات .فأطلق عليها أسماءها ،ليسهل عليه التفاهم . أما من علمه تلك الأسماء فهو رب العالمين الذي علم أبانا آدم الأسماء كلها .أسماء الموجودات زمن الخلق الأول كلها بكل لغات الأرض التي ستتفرع عن نسله. ثم وضع في جينات ذريته الوراثية المقدرة الذهنية والعقلية على توليد الألفاظ الجديدة، التي ستستحدثها الحياة عبر تطورها .وهذه هي النظرية التوفيقية في نشأة اللغة .وهي التي تتوسط بين التوقيفية التي تقول إن لغة البشر وقف على ما علمه الله -سبحانه وتعالى- لآدم عليه السلام والاصطلاحية .
التي تقول إن اللغات كلها من وضع البشر،اصطلاحًا فيما بين كل مجموعة بشرية متجانسة .
وولدت اللغة ألفاظها بوسائل عدة ، ومن بينها الاشتقاق.
فقد اشتقت العرب من الأسماء والأفعال و الحروف لكن بدرجات متفاوتة.
ويرى عدد من الباحثين المعاصرين؛أن أكثر ما تولَّدت منه الألفاظ، الأفعال ثم الأسماء ثم الحروف.
قالوا: تأبَّل: إذا اتخذ الإبل. وتأرض: إذا لصق بالأرض. وتخشَّب صار كالخشب.وهكذا….
تحجر من الحجر. وقالوا تأسَّد واستأسد، من الأسد .وقالوا تمزّن على قومه إذا تفضَّل عليهم من المزن أي السحاب.وأرى هذا الاشتقاق مجازًا مرسلًا لغويًّا غريبًا ، علاقته السببية. لأنهم يشبهون الكريم بالسحابة الممطرة والتي هي سبب في الخير والنماء ، ويشتقون فعلًا من لفظها للتعبير عن كرمه.
ويقال أرض مُرْوِضَة كثيرة الرياض، ومُعشِبة كثيرة العشب. وعاشبة ذات عشب مثل: لابن إذا كان ذا لب وتامر إذا كان ذا تمر …
وأهَّلَه الله لهذا الأمر: أي جعله له أهلًا، .. وفلان يعتصي على عصاه: أي يتوكأ، وقالوا: استفيَل واستنوق و تيَّس واستنسر واستذأب واستجمل، من الفيل والناقة والتيس والنسر والذئب.وتثلَّج من الثلج.
واشتقوا من الرباعي فقالوا: ثعلب الرجل إذا جبُن وراغ كالثعلب. وطحلب الماء: إذا علاه الطحلب.
واشتقوا من الرباعي المزيد فقالوا: قرطس الرامي إذا أصاب القرطاس، وهو الدريئة التي تتلقى الرمي.
وقالوا تنكَّب القوس إذا ألقاها على منكبه .
وكل هذه اشتقاقات من أسماء الذات .ومن هذا القبيل قولهم: تمنطق وتمدرع إذا لبس النطاق والدرع وتمسلم وتمسكن. إذا تظاهر بالمسالمة و السكون .
وكثُر (أفعَل) في اشتقاقهم من أسماء الأمكنة فقالوا: أهضب إذا دخل الهضبة. وأصحر وأسهل وأبحر وأبرّ وأغرب. وهكذا … وأحرم إذا دخل الحرم. وأساف إذا أتى السِّيف بالكسر، وهو ساحل البحر.
وكثر (أفْعَل) كذلك في اشتقاقهم من أسماء الأزمنة فقالوا: أربع وأصبح وأمسى وأضحى وأخرف وأشتى وأفجر وأظهر وأعصر وآصل…
واشتقوا من أسماء الأصوات فقالوا: من النعيق نعق ومن الخرير خرَّ. ومن الصهيل صهل . ومن الأزيز أزَّ .ومن الصرير صرَّ ومن الأنين أنَّ ومن الزئير زأر …وغيرها كثير من الأفعال الدالة على أصوات الحيوانات أو مايحيط بالإنسان .
وهذه ليست مصادر الأفعال في الأصل وإنما هي أسماء للأصوات حاكوا بها أصداء الطبيعة في النشأة الأولى للغة،حين كان اتصال الإنسان بالطبيعة وثيقًا؛وكانت الحاجة ضرورية لخلق ألفاظ للتفاهم.وتمثل هذه الألفاظ اللغة.
واللغة ما هي إلا أصوات ،تنبثق عن أصحابها مقلدة الأصداء المحيطة بها.
وبذا فقد صح أن كثيرًا من الأفعال في الأصل إنما انتزعت من أسماء الذات(الأعيان). وهذا ما يخالف رأي ابن جني والسيوطي اللذين يريان أن (الاشتقاق من الجواهر قليل جدًّا، والأكثر من المصادر)
والجواهر –كما سمياها هي أسماء الأعيان أو أسماء الذات، كما نسميها اليوم –هي الأصل المنطقي المادي في هذا الاشتقاق فهي الأشياء التي تتناولها الحواس الخمس قبل أن تنتهي مدلولاتها إلى آفاق النفس.
ولكن الأئمة لاحظوا أن المصدر ألصق بالفعل من حيث بناؤه .وما يعتري هذا البناء، وما يعترضه، من الإتباع والإبدال والقلب والإعلال، فقرنوا هذا إلى ذاك، لأن كلًّا منهما أشبه بصاحبه من حيث كيانه، وما يمكن أن يتعرض له في بحور التصريف.
وتفسيرهم هذا تفسير بنيوي لا أصولي ويتعلق بالصرف وبنية الكلمة وأصواتها ، لا بفلسفة اللغة العقلية المنطقية ومنشئها .
و ذهب الدكتور صبحي الصالح في كتابه (دراسات في فقه اللغة/ ١٩٩) إلى أن الأئمة قد بنوا مذهبهم في رد الأفعال إلى المصادر، على اعتقاد وجود أسماء المعاني قبل أسماء الأعيان، وهو محال من حيث المنطق.ومن ثم وجب رد الأفعال في نشأتها إلى أسماء الأعيان. (إن البداهة تقضي بوجود أسماء الأعيان المشاهدة المرئية التي تناولتها الحواس، قبل أسماء المعاني. لذلك كانت الأعيان، هي أصل الاشتقاق دون المصادر.. كيف لا؟ وقد امتلأت معاجمنا وكتبنا اللغوية بما لا يُحصى من الجواهر التي تفرعت عنها الصفات والأحوال والمصادر والأفعال).
وعلى هذا فأنا من رأي من يقول،: إن الأسماء في اللغة أسبق في الوجود من الأفعال .
والله أعلم.
التعليقات مغلقة.