محاكاة.بقلم عصام الدين محمد احمد
يجلس الناس على الأرض، الصمت ينشر أكاليله بين الحضور،أناس كثر – ينم شكلهم عن الرفاهية و الثراء – يتربعون فوق المسرح ؛ يلوكون كلمات مسترسلة عن القانون، يبنون زنزانة مضفرة جدرانها بالبوص،يدفعون كهلًا إلى الداخل،يرتدي قناعًا ، يرفع يافطة مخطوطـًا عليها:
خليهم يتسلوا.
يتكاثف الجمهور حول القفص، يحاول البعض تحطيم الأسوار الوهمية،ولكن بقية الجمهور تحول دون ذلك.
المتصابي يمضغ اللادن ويسخرمن النظارة،يصرخ فى تلاحق:
لماذا تحتشدون؟
الأصوات تتلاقى فى مركز الهدير:
خائن.
يقهقه قائلًا:
لا فائدة ترجوها النساء مني .
تتلاحق الأسئلة الحانقة من ألسن جافة:
أأنت أعمى؟
ألم تعزِلْنا فى جزيرة الحَاجَة والعَوَز؟
صوته من وراء قضبان الغاب تتعالى نبراته:
أتمزحون أو تغْرِفُون من نهر التبريرات ما يُقِيمُ أوَدَكُم؟
يصرخ القاضي:
لا أحد ينطق بكلمة دون إذن مسبق.
التعليقات تتسامق في الأجواء المرتبكة:
فاكر نفسه قاضي!
ها هو رجل لا يكاد يبين من وشاحه،يقول:
الجرائم التى ارتُكِبَت لا حصرَ لها.
يهمهم الذي يجاورني :
أفُكَّ سجن النيابة الآن؟
يستطرد صاحب الوشاح:
كل مَوَاد العقوبات تدينك.
يتقلقل القضاة فى مقاعدهم،الزحام على المسرح كاد أن يطيح بهم ، رجل يرتدي بدلة وردية،فوق رأسه طرطور أزرق، يهلل:
وطن للبيع،من يشتري؟
من قال أنا ؟
يصرخ المحتشدون :
متباع .. متباع.
رجل تبدو على وجهه تكشيرة غضب، يقول :
سرقتنا.
شاب امتطى الأعناق يشد أحباله الصوتية:
(فين) المُحَاكَمَة؟
عجوز تتلحف السواد،تولول:
ابني يا ناس باعه.
الصراخ يتيه متبخترًا:
المحاكمة حاكمة.
شاب يأتزر كفنًا،يَغْلُظ صوته :
القانون أداة غزو الأقوياء للضعفاء.
صوت من بعيد يترنم:
العمدة ما باع وما اشترى!
صدى الصوت يتضخم:
فمن الجاني إذن؟
يدنو الصوت،ترتفع وتيرته:
الخفراء.
يصيح كهل ببزته الأنيقة:
هذه مُحَاكَمَة غيرُ عادلة.
تتزايد الهمهمات ،البعض يشير إليه بقبضات اليد،عجوز هزيل البنيان يحاول شقَّ الصفوف، يستغيث:
عميل.
يلتقط مُخرِج العرض الميكروفون ،يسأل الكهل المنتفض:
أتريد أن تتولى الدفاع؟
يحُول تدافع الحشود – الذين ما لَبِثوا أن وقفوا – دون الاشتباك،أضحى الحراك متعبًا، كاد الزحام على هذه المِنَصَّة أن يَصِل لدرجة الالتصاق،لا أتمكن من الدوران ،أبخرة تكتنف المِنَصَّة،يصعد رجل ضخم الجثة ،تحيط به زُمْرَة الفتوات، زعيقه مجلجل:
لن أدعْكم تحاكمونه.
فوهات الألسن تُطلِق:
القصاص.
الأيادي الحانقة تلقُفُه وجَوْقَته،تتلاقمهم طاحونة عملاقة،المحتشدون يغنون:
يا بلادي يا عليلة.. باليد ألف حيلة.
أخيرًا نطق القاضي:
التهمة ثابتة ولكن نسيْتُ الميزان.
يحمِل مئات الرجال التوابيت ،بهدوء جنائزي يخرج كل فرد ، يقف الجمهور مثكول الفؤاد، يسند الرجال التوابيت على الأرض،يقدمون أنفسهم على المِنَصَّة.
الطابور طويل،والإمام مشغول البال،يدعو لصلاة الجِنَازَة،تعود الجثامين إلى اللحود، التكبير والتهليل يَنسُجَان السماء،يتهادى الموكب الحزين،يشق الصفوف الناعية،ترقد القبور فى جوف الإسعاف ، تزفر الشهقات:
“يا غلبان نام وارتاح واحنا حنكمل الأكل.”
تدور بي المشاهد،أتهاوى،أسبح فى غيابات الجُبِّ.
انقطع المشهد تمامًا،وشيش واهتزاز،معالم الأشياء غير واضحة.
هُنَيْهَة وتظهر رايات سوداء فى الأفق البعيد،مَرْكَبَة ورقية تسبح فى الفضاء،رسومات الجماجم على الجُدُر لا حَصْرَ لها ،مزيج الأحمر القاني والأبيض الباهت يندلق على اللوْحَة،انفجارات الألوان تتغلغل الرؤى،أعشاش الجماجم تتناثر .
أفِيق على دَوِي الهُتافات،تتهول الحشود،الميدان يُؤجَّجُني،يمحو أطياف التذكر،الهُتاف يتسامق:
الإعدام.
أسير ساخرًا:
كيف نعدم من بيده المِقْصَلَة؟
تمت بحمد الله
التعليقات مغلقة.