رؤية نقدية للكاتبة الروائية صباح عبد النبي الدويري
رواية ” س ” تدور احداثها ما بين ” بئر معطلة وقصر مشيد ”
رواية ” س ” للأديب القدير جابر الزهيري
رواية ” س ” تم مناقشتها مؤخرا في نادي كتاب الإسكندرية
محاكمة الزهيري للجن العاشق في رواية ” س “
بقلم الروائية/ صباح عبد النبي الدويري
إعداد ومتابعة / عصام القيسي
الاديب جابر الزهيري
على جسر السنوات الطويلة تألق الزهيرى فى :
(يافاتنتى) (خلتينى )( بقايا رسائل عشق محترقة) بقراءة (فى فنجان مكسور ) ( وقال الزهيرى ) لنا ( مفتاح اللغز ) فى ( لاثالث لهما ) مرورا ب (البلابل من بر مصر ) ولكن (للزهيرى أقوال أخرى ) وهو يتبارك ب (المقام )ويحاكم الجن العاشق فى رواية (س) وهو متربع على قمة هرم إبداعه. ينتظر وننظر معه ميلاد (ابن الغريبة ).
رواية ” س ”
بعدما انتهيت من قراءة رواية المقام للشاعر الكبير والروائى القدير جابر الزهيرى ذات القضايا العقائدية الشائكة مابين مصدق ومعتقد ومكذب ورافض ؛ دلفت شوقا لقراءة رواية ( س ) تلك الرواية التى التى كتبت بمداد دماء شخوصها ففى رواية( س ) من قتل يقتل ولو بعد حين ومن لم يقتل يقتل أيضا !!
(س) هذا الحرف الذى رمز الكاتب به للجنى “سمسمائيل ” ذلك الجنى العاشق أو لسليم الذى تلبسه لحظة خروجه مكرها من جسد أمه مفيدة التى تلبسها يوم رأها مجردة من ملابسها استعدادا للسباحة عند بئر الساقية القديم بمفردها تلك البئر المعطلة التى دارت حولها العديد من الحكايا قديما وحديثا.
وبقراءة تعاويذ الشيخ إبراهيم خرج منها ليسكن جسد سليم ذا التكوين النفسى الهش ، قليل الحيلة ، البكاء ،ضعيف البنية ، المتنمر به من قبل إخوته وأقرانه بالمدرسة ؛ وعزمه على ترك الانهزامية وعدم تحمل أخطاء الكثيرين .
وقد بدا البطل فى تلك الرواية قاضيا محنكا فى الحكم على الأحداث ومحاكمة الضمائر (بعدما مل كل مدية وكل ناحر وكل منحور من أجله )
فقد برع الكاتب فى وصف تكوين سليم النفسى ونشأته بين إخوته حيث كانوا هم بالنسبة له كإخوة يوسف الذين ألقوه فى جب الظلم ولكن ماذا بعد أن أصبح سليم عزيز قرية سيسياوأتى بهم إلى قصره المشيد بينما اكتظت البئر المعطلة بجثث ثلاث قتلت بطرق مختلفة وأدوات للجريمة متنوعة .
دلالة العنوان بحرف واحد
استهل الكاتب روايته بالعنوان المثير (س) بحرف واحد تدور حوله كل الأحداث يدعو للحاجة إلى إجابة نقف أمام دلالته طويلا :
بما أن الظاهرة الاديبة هى تعد دائما ظاهرة محيرة للعقول ومدهشة بما يقدمه المبدعون من قضايا جديدة وتكوينات المبدع المبهرة تبدو جلية فى كتابات الزهيرى ؛ فتجعل المتلقى كالمسحور يتبع خطاه لما يستشعره من تراث وعقائد هما ثوابت الضمير الإنسانى وخاصة فى الجنوب ضمنها الكاتب روايته فلإبداع الزهيرى خصائص مائزة وعلاقات إنسانية معقدة لكنه فى تلك الرواية تخطى العلاقات بين الإنس والإنس إلي العلاقات بين الإنس والجن فربط الإنس بالجن فى علاقة أكثر تعقيدا حيث وضع مفيدة تحت ضغط سمسمائيل الجنى العاشق الذى تملك جسدها .
طرح الزهيرى قضية ذات خصائص لأحداثها تعتمد على ثقافة تجريبية وصدام مباشر مع عالم الجن حيث ذكر من التعويذات بما يشى بتمرسه لاستحضار الجن وصرفه ؛ إلا أن تلك التعويذات جاءت مبتورة ربما عمدا من الكاتب .
تتقافز المشاهد السينمائية فى الرواية بمخيلة القارئ ؛ تدفعه للشغف ومزيدا من التلهف للنتائج وتمسك بتلابيب افكارة فلا يستطيع الإفلات منها ؛ تمنحه مزيدا من المتعة والدهشة معا .
بدت اللغة عند الزهيرى عفية جزلة وتراكيبها عنيدة المراس وجاء بعضها لغة واضحة وسهلة و مباشرة أحيانا .
لم يغفل الزهيرى الأمثال الشعبية وهى موروث ثقافى له خصوصيته وظفها توظيفا جيدا لخدمة العمل(لم يعرف دروب المواخير إلا للسكارى ) الروائى مزود بثقافات متعددة ورؤية واضحة للمجتمع الريفى فى صعيد مصر فهو يتميز بأسلوبه الخاص فى معالجة قضايا رواياته .
تلاعب الزهيرى بالزمن ومزج الأزمنة والشخصيات والحوادث بحرفية عالية وبدا أنه ذو مقدرة فائقة فى تصوير علاقة الجن بالأنس وقهره له فى هاجس رؤيا مفيدة لتحول كفها لفأس يبتر أفرع خمس ؛ مما جعل القارئ يترقب الأحداث بعد استخراج جثة محمود ابنها الأكبر بعد استخراج جثته من بئر الساقية القديم وقدتحللت بفعل ماء البئر المالح فقد جعل الكاتب أحداث الرواية على صفيح ساخن لتلك المرأة الريفية مفيدة التى لايحمل رحمها سوى ذكورا فقط إشارة على استحياء منه إلى التمييز فى الريف بين الذكور والإناث وخاصة فى الجنوب.
يتضح من قراءة الرواية الأولى (المقام ) لجابر الزهيرى والثانية (س) أنه لايوجد فاصل بين مايكتب ومايعتقد ؛ فكلنا أبناء هذا المجتمع الملئ بوقائع نشاهدها وربما نمر بها والأطر المجتمعية المحيطة بالمبدع كان لها عظيم الأثر استطاع خلالها فك الشفرة فى العلاقة بين الإنس والجن وهذا يحدث كثيرا فى المناطق المغلقة حيث تواجد بعض الشخصيات مثل الشيخ إبراهيم وحقيبة تعاويذه لحرق الجن أو التصالح معه.
الإنسان ابن بيئته
الإنسان ابن بيئته هكذا قال الزهيرى فى عدة مفاهيم ومعايير ملموسة :
كأن يتحول سليم إلى رمز للتضحية من أجل إعادة سيادة عائلة الجابرى على قرية( سيسيا) فهو رمز مقنع لفكرة المخلص لعائلته من ذل لعملهم أجراء لدى الغير بعد سيادة ظلت طويلا لهم على القرية ابتداء من تلبس ” سمسمائيل “له كأن يسخر الجن لتحقيق أهدافه فى استعادة مملكة الجابرى وهذا ما أودى بحياة الكثيرين والنهاية المأسوية المحتومة لكل من صلاح ابن العمدة والشيخ إبراهيم والخفير خليفة وكل من له مطامع فى الكرسى .
وأنا أرى أن الرواية كلها عبارة عن حلم واع يدور فى عقل سليم المحامى وليس الجنى ” سمسمائيل ” فبعض البشر يأتون بأفعال شريرة تفوق مايفعله الشياطين بمراحل ف سليم هذا المحامى الذى خطط للالتحاق بكلية الحقوق عمدا ليخلق من ضعفه قوة وساعده تفوقه العلمى أن يجعله مقربا لأساتذته بالجامعة وعمله بمكتب قريب لأحدهم ليحمى دراسته بسياج الرغبة لمعرفة المزيد من ثغرات القانون ليستعيد القصر والعزبة بطرق غير مشروعة .
الحبكة الدرامية قبض الكاتب على خيوطها قبضة محكمة لم يسقط من يده حدثا واحدا فكل الأحداث محكومة بعقل سليم لابعقل “سمسمائيل ” ذلك الجن العاشق لأمه مفيده.
نجح الكاتب فى هذه المعالجة الفنية للرواية لتوصيل رسالته خلال تقنيات فنية وخبرات بشرية سابقة أخذها عن الٱخرين فهو برع فى تصويرنفسية البطل الذى اجتمع فيها فكرة العدائية والذات تلك الشخصية الانهزامية التى تحولت إلى مارد يحقق مايريد بفعل تخطيطه الجهمنى .
اللغة وطيدة بين الصراع وشخصية سليم تكشف عن لبسه وجه ذئب يخيف به المجتمع القاهر له طفلا وصبيا ويبدو شخصية انتقامية جامدة المشاعر لم تمر بعاطفته علاقة أنثوية فى مرحلة المراهقة كالحب العذرى أو فى غيرها من المراحل وينتج هذا عن القهر الذى عطل إرادته لفترة طويلة لمدة تسعة عشر عاما سلب الإرادة والقهر تلتها مرحلة التبلد العاطفى ثم التحول إلى شخصية انتقامية فعنصر المفاجأة هنا أن الشعور بالنقص أمام الٱخرين وواقعه المهزوم جعل منه قاهرا فهو قد تشرنق حول نفسه مقيدا برغباته الشريرة فى الوصول إلى السلطة فيجعل أباه أحمدسيف الجابرى هو العمدة لقرية سيسيا بعد التخلص من العمدة الحالى .
بدا السلوك الإجرامى فى الأحداث وراثيا فأمه مفيدة تعلم باغتصاب ابنها محمود لزينب ابنة جارهم عبد الغفار وحملها منه سفاحا بعد اعتراف زينب لها وتستدرجها إلى البئر القديم خنقا وإلقائها فى البئر لتستقر فوق جثة والدها الذى سبقها زوج مفيدة أم سليم (أحمد سيف الجابرى ) بطعنه بالمنجل طعنات نافذة وإلقائه فى بئر الساقية لنفس السبب ؛ لتستقر جثتهما فوق جثة محمود الذى اختفى من شهور ثلاث الاخ الأكبر لسليم فضلا عن قتل ابنة العمدة القديم على يد أبيه هنا بدت فى كل الأحداث كل القتل مبررا .
الصراع على السلطة
تناولت الرواية بشكل غير مباشر الصراع على السلطة المتمثلة. فى العمودية واستعادة الممتلكات وأرجع الكاتب كل نجاحات سليم لملازمة الجن “سمسمائيل” له واخذ العهد عليه وتهديده بالحرق داخل مكتب المحامى الذي يعمل فيه ولكننى كقارئة أرى أن سليم المحامى المتفوق العبقرى قد استسلم لهواه وشره وهو مقيد برغباته ومنافع شخصية فمعظم الكراسي قد صنعت من عظام البعض وطليت بدماء البعض الٱخر فهذه الوحشية التى تلبست شخصية سليم وعدم الائتناس مع الٱخرين ناتجة عن قهره فى طفولته .
تماهت أفكار الكاتب مع الأحداث حيث نشأته فى صعيد مصر حيث الصراع على العمودية السلطة والقتل من أجل الشرف.
لغة الجسد
بدت لغة الجسد جلية فى العمل الأدبى فى اكثر من موضع عند ما أخرج الخفير جثة تلو جثة بدت الإشارات وحديث العيون والايماءات عند مقتل العمدة .
لم يغفل الزهيرى العدودة فى المشاهد الجنائزية عند إخراج جثة محمود المتحللة فى بئر الساقية القديم وتذكر مفيدة بتحول يدها فى الرؤيا إلى فأس تبتر أفرع خمس :
(يابو الصديرى الخط جنب الخط
خسارة شبابك ف التراب يتحط )
(بحرى البلد نسوان ليهم مناديل
شوحت قالوا عريس وجاى قتيل )
بواطن الشخصية
اهتم الزهيرى أثناء سرده ببواطن الشخصية ومحتوى وعيها وغايتها الشريرة واساليبها المنحطة وماتوصل إليه المحامى سليم يرجع إلى عصارة ذهنه المتقد وجنى عقله الذى دفعه أن يخضع الجنى العاشق “سمسمائيل ” بالتعاويذ والعهود السليمانية ويثبت لنا الكاتب تفوق الإنس على الجن وإخضاعه لتحقيق رغاباته ولكن يظل الصراع قائما بين الإنس والجن وبقيت رؤية مفيدة متعلقة بتحول يدها إلى فأس تجتث فروع خمس رغم محاولة ابنها إسماعيل بقراءة التعاويذ عليها لحرق “سمسمائيل ” داخل القصر المشيد الذى غادره الجميع ليبقى به سليم بمفرده .
وأخيرا لا أملك إلا أن أهنئ الصديق الرائع الشاعر والروائى جابر الزهيرى بروايته المبهرة (س) التى اجابت لنا عن كل التساؤلات التى تدور فى أذهاننا حول العلاقة بين الإنس والجن .
التعليقات مغلقة.