محشي ورق العنب …بقلم وداد معروف
اليوم أول يوم من رمضان, نام أولادي مرهقين بعد أن سهروا حتى السحور؛ في تزيين البيت بزينة رمضان, سأدير مؤشر الراديو معي في المطبخ, برامجه الرمضانية تشعرني بعبق الشهر وتعيدني لأيام طفولتي. اليوم الأول هو الموعد السنوي لوليمة إخوتي الأحباء, ترى ماذا سأصنع لهم اليوم من أصناف؟
نعم نفس أصناف العام الماضي مع أنواع جديدة تعلمتُها من برامج الطبخ, نتجمع خلال العام على ولائمَ كثيرة عندي وعند أختي “رُبى” وأخي “راضي”, لكن رمضان له أطعمته المخصوصة.
فلأبكر بعمل الأصناف, حتى أملك وقتي وعندما تأتي “ربى” وأولادها و”راضي” وأبناؤه أكون قد انتهيت؛ لنجلس معا نستعيد ذكرياتنا الرمضانية.
أبدأ بطهي بالبط , وأعد حشوته المخصوصة التي تعلمتها من أمي رحمها الله, أغلب بيوت دمياط , يكون على مائدة إفطارهم في اليوم الأول بط “بالمرتة”(), بعده أطهو اللحوم والكفتة ثم أَحب طبق لراضي أخي محشي ورق العنب, ثم الحلويات وأترك الأرز والمكرونة لما قبل المغرب بساعتين, وأَدعُ العصير والسلطة الخضراء لزوجي فهذا نصيبه في مساعدتي كما طلب.
سأنظر للمشتريات التي أتى بها “رأفت”؛ أخشى أن يكون نسي ورق العنب, صدق حدسي؛ ليس في هذه الأكياس ورق العنب, لن تخلو مائدة إفطاري منه اليوم؛ وإن اضطررت للنزول بنفسي واشتريته.
- رأفت…. من فضلك انزل اشترِ لي ورق عنب.
- لماذا تصرين عليه يا رضوى؟, أتيت لك بالكرنب بدلا منه, دعينا نغير هذا الصنف هذا العام.
- لا ..لا .. هذا الصنف يحب راضي أن يأكله من يدي, لأني أطهيه كما كانت تطهيه خالتي إكرام, هو لا ينسى طعمه من يدها.
- وأنا أحب ما يحبه دكتور راضي, سأشتريه لك حالا.
نزل وأغلق الباب؛ لكنه فتح باب ذاكرتي على مصراعيه, فأتذكر محشي ورق العنب من يد خالتي وطعمه الذي نتذكره أنا وإخوتي كلما طعمناه معا.
لا أستطيع أن أخبرك يا رأفت عن هذا اليوم الذي دعتنا فيه خالتي إكرام للإفطار عندها.
ذات يوم من سبعة عشر عاما, كنا أطفالا وكنا جياعا كلنا؛ ليس من صوم هذا اليوم فقط؛ وإنما من صوم اليوم الذي قبله أيضا, طوينا اليومين حينما لم تجد أمي أي شيء في البيت تطبخه لنا على الإفطار, أنهكها الفقر، أنهكها الدين, أنهكها أبي الذي كان يَذكُرُنا كل ستة أشهر أو أربعة أشهر بفتات يتبقى من راتبه, تكون أمي قد استدانت أضعافهم, وحين يصلنا فتاتُه مع أي قادم من البلد العربي الذي يعمل به, يكون قد سمع بمقدمه من استدنَّا منهم, فقريتنا صغيرة والخبر فيها يلف ويدور, ربما تأتي النقود ولا يتبقى منها إلا مصروف أسبوع أو أسبوعين, ونعود لما كنا عليه من قبل, استدانة من أقاربنا ومعارفنا, يتراكم الدين شهورا, يَمَلُّون منا, تكف أمي عن الاستدانة, ينتهي كل مخزون البيت, نظل نحن الأربعة بدون طعام إلا من كسرات الخبز الجاف مع بعض أكواب الشاي. يكون هذا سحورنا في رمضان، أو إفطارنا في غير رمضان .
كانت فرحة كبيرة يوم أن عادت أختي رُبَى من عند صديقتها تحمل في يدها طبقا كبيرا ملفوفا بورق الجرائد, كنا قبل المغرب بساعة ولم يكن كالعادة عندنا ما يؤكل, حتى الأرز لم يكن في بيتنا.
كلنا تجمعنا لنفتح الطبق, ما أروعه من كعك وما أجمل السكر الأبيض فوقه, ضحكنا واطمأنت قلوبنا فحين يؤذن المغرب, سنجد ما نفطر عليه, وليس أي إفطار؛ إنه الكعك.
قالت ربى: أصرت أم صديقتي أن تهديني طبقا من كعك العيد, كانت تخبزه وكانت رائحته تملأ البيت, شممته وأنا مع ابنتها, لكني لم أقل حرفا ولم أبين لها اشتهائي له, وحين مدت لي يدها بالطبق رفضتُ يا أمي؛ وأنا أتمنى أن تصر, أصرَّت وفرحتُ.
كذلك يوم إفطار خالتي إكرام, عودتنا أمي أن لا نشكوا لأحد, فلم يعرف عنا أحد هذه الفاقة الشديدة, ذهبنا لخالتي وجلسنا بوقار على الإفطار, لم يلحظ أحد أنه قد مر علينا يومان لم نذق فيهما طعاما, حينما وجدنا على السفرة محشي ورق العنب ابتسمتُ أنا وربى ونظرنا لراضي أخي, فأعارنا ابتسامة مثلها ووضع عينيه في طبق المحشي الذي أمامه, فرحنا له أن تحققت أمنيته, طبق كبير من محشي ورق العنب باللحم المفروم تتخلل طبقاته قطع من لية الخروف, اقترب أخي من الإجهاز على طبقه؛ لكن كما قال لنا بعد ذلك؛ تركت بعضا منه عفة لا اكتفاءً.
دعت أمي كثيرا لخالتي إكرام وشكرتها على هذا الطهي الجميل.
لا تخلو حكاياتي أنا وإخوتي في كل رمضان من هذه الذكريات, امتلأت بيوتنا خيرا؛ لكننا لم ننس يوم أن أشبعتنا خالتي إكرام.
عندما كبرتُ وتزوجتُ، وفي عزاء أمي أخبرتُها بما كان ولا تدريه، قالت لي: آلمتِنِي يا رضوى, ليتها كانت دائمة, ليتها كانت كثيرة.
وداد معروف
15/4/2020
التعليقات مغلقة.