” مدينتي الوادعة ” محمود حمدون
” مدينتي الوادعة “
محمود حمدون
لم أر من قبل حائطًا يرتعد وتضطرب أحجاره كما رأيت بالأمس , فلو قال لي الناس جميعهم ذلك ما صدّقتهم , لكذّبتهم أجمعين , فمنذ زمن بعيد و ” عبد الجبار ” تخشاه أحجار البنايات القديمة , وتهابه الحوائط الخراسانية المسلّحة الحديثة قميئة الشكل , تلك التي أُبتليت بها مدينتنا الصغيرة الوادعة كفراشة تتلاعب بها الريح في يوم ربيعي بديع ..
حتى يوم أتانا هذا العتيّ , بشاربه الكث , نظرته النارية , بطشه الشديد , أدوات تعذيبه التي يحملها في جيوب بنطاله ومعطفه الأسود وتحت أبطيه , حتى قيل أن صلة قرابة ونسبًا بينه وبين ” عشماوي ” , من جبروته خاف الناس أن يسألوه عن عمله, أمن جهة أمنية سيادية ينحدر أم من جهة عليا تعفّ ألسنة الثقلين عن ذكرها ؟! لم نجرؤ على طرح السؤال بل خشينا مجرد التفكير فيه بسرائرنا , بمرور الوقت زاد ” عبد الجبار ” من طغيانه وأحكم قبضته على رقاب العباد , كنّا نجده يستلذ بتعذيب الهوام والبشر ممن يسوقوهم الحظ العاثر للوقوع بطريقه .
بدلته السوداء , نظارته الأشد قتامة من ليال شتاء ” طوبة ” تلك البرودة التي يلقيها بأفئدة العباد إن رفع يده بالتحية إليهم , يبطش لأتفه سبب , بجيبه العلوي قائمة اتهامات جاهزة إن نطق بواحدة منها بحق أحد أصبحت حكمًا لا يقبل النقض بعد ذلك ..
سنوات كثيرة استعصت على العدّ هو بيننا أو نجن بين زنديه يعصرنا عصرًا, لكم رفعنا أكفّنا للسماء , ندعوها جهرة وسرًّا أن تخلّصنا من هذه النازلة , لكنها أغلقت أبوابها دوننا , فزاد الظلم والبغي حتى أصبح بكل شارع وحارة وزاوية سرادق للعزاء لضحية من ضحايا تعذيبه .
وحين مررت به بالأمس , بطريقي لمكتب شهر عقاري تعاف الأرجل أن تطأه لعتمة مدخله وانزوائه بشارع جانبي ضيق , وجدتني جوار سيارته والحرس الحديدي يحيط به , بدت السماء وقد أوشكت أن تنطبق على الأرض من رهبة وخوف حلّ في الأفق ,وقد سرت رعدة شديدة بجسدي النحيل وقلت لنفسي : أي حظ سيء ألقي بيّ صبيحة هذا اليوم في طريقة ؟ وبسملت وحوقلت وقرأت في سرّي بعض ما أحفظ من آيات علّ السماء تستجيب هذه المرة ولو استثناء دون تفعل مع الخلق هنا , وبينما أنا سادرُ في غييّ , أحسست بمن يرمقني من قريب , فالتفت فوجدته هو وبجواره تجلس سيدة عصبية شديدة البأس بدت أنها زوجته , لم ينتبه إليّ سوى بعينيه الغائبتين عنيّ , كان يهمس للمرأة : سأنزل معك لانهاء الاجراء بسرعة فمثلي لا ينتظر والقوم هنا يعملون ليّ مليون حساب , لكن نبرة التيه والفخر تحجّرت بحلقه حينما عاجلته المرأة بقولها : ” اتلهي مكانك , رايح معايا فين يا ابن ال… ” وعدّدت نسب عائلته لكثير من الحيوانات من ذوات الأربع والذيول , ذهلت مما سمعت , بينما وضع الحرس والمارة أصابع في أذانهم واستغشوا ثيابهم ..
أسرعت الخطي من هول ما وصلني من سباب, بينما كنت أهرول و يتوارى المشهد بكامله خلفي انطلق صوت المرأة بحدة أكبر : انت يا حيوان .. فتسمّرت في مكاني وحيرة تأخذ بتلابيبي , ترى أيّنا؟!
التعليقات مغلقة.